الأحد، 5 سبتمبر 2010

فروع الفلسفة العامة

اولا الفلسفة اليونانية
إذا كان تفكير الإنسان القديم أسطوريا ينبني على الميتوس في تفسير الظواهر الكونية والوجودية، وتفكيرا شاعريا يعتمد على الخيال والمجاز الإحيائي، فإن تفسير الإنسان اليوناني كان تفكيرا عقلانيا يعتمد على البرهان الذهني والمنطق الاستدلالي واللوغوس في فهم الوجود وتفسيره. وإذا كان فيتاغورس هو أول من أطلق كلمة فيلسوف على المشتغل بالحكمة، فإن سقراط هو أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض. وقد ظهرت الفلسفة كما هو معلوم في اليونان ونضجت بالخصوص في عاصمتها أثينا مابين القرنين: السادس والرابع قبل الميلاد مكتوبة باللغة الإغريقية مستهدفة فهم الكون والطبيعة والإنسان وتشخيص سلوكه الأخلاقي والمجتمعي والسياسي وإرساء مقومات المنهج العلمي والبحث الفلسفي والمنطقي. إذا ماهي مميزات الفلسفة اليونانية؟ وماهي أهم الاتجاهات والمدارس والمناهج الفلسفية التي عرفها الفكر اليوناني؟ وماهو السياق المرجعي الذي نشأت فيه هذه الفلسفة؟

نشــــأة الفلسفـــة اليونانية

أ‌- العوامــــل التاريخية
ظهرت الحضارة الإغريقية في بلاد اليونان الكبرى مكتملة الوجود ما بين القرنين الخامس والتاسع قبل الميلاد ، و توحدت كثير من القبائل والمدن داخل كيان الأمة اليونانية بعد أن كانت متفرقة في جزر بحر الإيجه وآسيا الصغرى ومنطقة البلقان وشبه جزيرة المورة وجنوب إيطاليا وصقلية. وقد أطلق على اليونانيين تسمية الإغريق من قبل الرومان ؛لأنهم كانوا يتكلمون الإغريقية، أما هم فقد كانوا يسمون أنفسهم الآخيين ثم الهلينيين.
وقد مرت الحضارة الإغريقية بثلاث مراجل كبرى: العصر الهلنستي ابتداء من 300 ق.م مرورا بالعصر الكلاسيكي الذي يعد أزهى العصور اليونانية في عهد الحاكم الديمقراطي بركليس ،ويمتد هذا العصر من القرن 350 إلى 500 ق.م ليعقبه العصر الأرخي وهو عصر الطغاة والمستبدين الذين حكموا أثينا بالاستبداد ناهيك عن الحكم الإسبرطي العسكري الذي سن سياسة التوسع والهيمنة على جميع مناطق اليونان، كما مد سلطة نفوذه المطلق على أثينا.
وإذا كانت إسبرطة دولة عسكرية منغلقة على نفسها تهتم بتطوير قدرات جيشها على القتال والاستعداد الدائم لخوض المعارك والحروب ، فإن أثينا كانت هي المعجزة الإغريقية تهتم بالجوانب الفكرية والثقافية والاقتصادية. وستعرف أثينا في عهد بريكليس نظاما ديمقراطيا مهما أساسه احترام الدستور وحقوق المواطن اليوناني. وإليكم نصا خطابيا لبركليس يشرح فيه سياسته في الحكم:” إن دستورنا مثال يحتذى، ذلك أن إدارة دولتنا توجد في خدمة الجمهور وليست في صالح الأقلية كما هو الحال لدى جيراننا، لقد اختار نظامنا الديمقراطية.
فبخصوص الخلافات التي تنشأ بين الأفراد فإن العدالة مضمونة بالنسبة للجميع، ويضمنها القانون، وفيما يخص المساهمة في تسيير الشأن العام، فلكل مواطن الاعتبار الذي يناله حسب الاستحقاق، ولانتمائه الطبقي أهمية أقل من قيمته الشخصية، ولايمكن أن يضايق أحد بسبب فقره أو غموض وضعيته الاجتماعية”[1].
وتتميز المدن اليونانية بأنها دول مستقلة لها أنظمتها السياسية والاقتصادية وقوانينها الخاصة في التدبير والتسيير والتنظيم، ومن أهم هذه المدن/ الدول أثينا وإسبرطة.

ب‌- العوامـــل الاقتصادية
عرفت اليونان نهضة كبرى في المجال الاقتصادي لكونها حلقة وصل بين الشرق والغرب، وكان لأثينا أسطول تجاري بحري يساعدها على الانفتاح والتبادل التجاري بين شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط. وقد ساهم اكتشاف المعادن في تطوير دواليب الاقتصاد اليوناني وخاصة الحديد الذي كان يصهر ويحول إلى أداة للتصنيع . كما نشطت صناعة النسيج والتعدين، وازدهرت الفلاحة كثيرا ، وكان العبيد يسهرون على تفليح الأراضي وزرعها وسقيها وحصد المنتوج الزراعي، وأغلبهم من الأجانب يعيشون داخل المدن اليونانية في وضعية الرق والعبودية. وقد ساعد هذا الاقتصاد المتنامي على ظهور طبقات اجتماعية جديدة إلى جانب طبقة النبلاء كالتجار وأصحاب الصناعات وأرباب الحرف والملاحين الكبار. ونتج عن هذا الازدهار الاقتصادي رخاء مالي واجتماعي وسياسي وفكري، وتبلورت طبقة الأغنياء التي ستتنافس على مراتب الحكم والسلطة وتسيير مؤسسات الدولة التمثيلية لتسيير شؤون البلاد.

ت‌- العوامـــل السياسية:
لم تصل اليونان إلى حضارتها المزدهرة إلا في جو سياسي ملائم لانبثاق مقومات هذه الحضارة. فقد تخلصت الدولة المدينة وخاصة أثينا من النظام السياسي الأوليغارشي القائم على حكم الأقلية من نبلاء ورؤساء وشيوخ القبائل والعشائر الذين كانوا يملكون الإقطاعيات و الأراضي الواسعة التي كان يشتغل فيها العبيد الأجانب. و ثار الأغنياء اليونانيون الجدد على الأنظمة السياسية المستبدة كالنظام الوراثي والحكم القائم على الحق الإلهي أو الحق الأسري .
ومع انفتاح اليونان على شعوب البحر الأبيض المتوسط وازدهار التجارة البحرية ونمو الفلاحة والصناعة والحرف ظهرت طبقات جديدة كأرباب الصناعات والتجار الكبار والحرفيين وساهموا في ظهور النظام الديمقراطي وخاصة في عهد بريكليس وكليستين ، ذلك النظام الحر الذي يستند إلى الدستور وحرية التعبير والتمثيل والمشاركة في الانتخابات على أساس المساواة الاجتماعية ، بل كانت تخصص أجرة عمومية لكل من يتولى شؤون البلاد ويسهر على حل مشاكل المجتمع.

ث‌- العوامــل الجغرافية:
كانت اليونان في القديم من أهم دول البحر الأبيض المتوسط لكونها مهد المدنية والحضارة والحكمة ومرتع العقل والمنطق الإنساني. وإذا استعدنا جغرافيا اليونان إبان ازدهارها فهي تطل جنوبا على جزيرة كريت العظيمة، ويحيطها شرقا بحر إيجة وآسيا الوسطى التي كانت تمد اليونان بمعالمها الحضارية وثقافات الشرق ، وفي الغرب عبر أيونيا تقع إيطاليا وصقلية وإسبانيا، وفي الشمال تقع مقدونيا وهي عبارة عن شعوب غير متحضرة.

وتتشكل اليونان على مستوى التضاريس من جبال شاهقة وهضاب مرتفعة وسواحل متقطعة ووديان متقعرة. وقد قسمت هذه التضاريس بلاد اليونان إلى أجزاء منعزلة وقطع مستقلة ساهمت في تبلور المدن التي كانت لها أنظمة خاصة في الحكم وأساليب معينة في التدبير الإداري والتسيير السياسي. وتحولت المدينة اليونانية إلى مدينة الدولة في إطار مجتمع متجانس وموحد ومتعاون. وتحيط بكل مدينة سفوح الجبال والأراضي الزراعية،وكانت من أشهر المدن اليونانية أثينا وإسبارطة.[2]
وكانت أثينا مهد الفلسفة اليونانية وتقع في شرق إسبارطة ، وموقعها متميز واستراتيجي؛ لأنها الباب الذي يخرج منه اليونانيون إلى مدن آسيا الصغرى، وعبر هذه المدن كانت تنقل حضارة الشرق إلى بلاد اليونان. ومن أهم ركائز أثينا اعتمادها على مينائها وأسطولها البحري. وبين عامي470-490 قبل المسيح ستترك أثينا وإسبرطة صراعيهما وتتوحدان عسكريا لمحاربة الفرس تحت حكم داريوس الذي كان يستهدف استعمار اليونان وتحويلها إلى مملكة تابعة للإمبراطورية الفارسية. ولكن اليونان المتحدة والفتية استطاعت أن تلحق الهزيمة بالجيش الفارسي. وقد شاركت أثينا في هذه الحرب الضروس بأسطولها البحري، بينما قدمت إسبارطة جيشها القوي، وبعد انتهاء الحرب سرحت إسبارطة جيوشها وحولت أثينا أسطولها العسكري إلى أسطول تجاري، ومن ثم أصبحت أثينا من أهم المدن التجارية في حوض البحر الأبيض المتوسط.
هذا، وقد عرفت أثينا نشاطا فكريا وفلسفيا كبيرا بفضل الموقع الجغرافي والنشاط التجاري ونظامها السياسي الديمقراطي وتمتع الأثيني بالحريات الخاصة والعامة وإحساسه بالمساواة والعدالة الاجتماعية في ظل هذا الحكم الجديد . وفي هذا يقول ول ديورانت:” كانت أثينا الباب الذي يخرج منه اليونانيون إلى مدن آسيا الصغرى، فأصبحت أثينا إحدى المدن التجارية العظيمة في العالم القديم، وتحولت إلى سوق كبيرة وميناء ومكان اجتماع الرجال من مختلف الأجناس والعادات والمذاهب وحملت خلافاتهم واتصالاتهم ومنافساتهم إلى أثينا التحليل والتفكير… وبالتدريج تطور التجار بالعلم، وتطور الحساب بتعقيد التبادل التجاري، وتطور الفلك بزيادة مخاطر الملاحة، وقدمت الثروة المتزايدة والفراغ والراحة والأمن الشروط اللازمة في البحث والتأمل والفكر”.[3]

ج‌- العوامـــل الفكرية
ومع ازدهار الاقتصاد ودمقرطة الحكم السياسي وانفتاح الدولة على شعوب البحر الأبيض المتوسط وانصهار الثقافات انتعشت اليونان ثقافيا وفكريا وتطورت الآداب والفنون و العلوم. ففي مجال الأدب نستحضر الشاعر هوميروس الذي كتب ملحمتين خالدتين: الإلياذة والأوديسة، ونذكر كذلك أرسطو الذي نظر لفن الشعر والبلاغة والدراما التراجيدية في كتابيه: ” فن الشعر” و” فن الخطابة”. وتطور المسرح مع سوفكلوس ويوربيديس وأسخيلوس وأريستوفان، وانتعش التاريخ مع هيرودوت وتوسيديد والتشريع مع الحكيم سولون، وتطور الطب مع أبقراط أب الأطباء ، والرياضيات مع طاليس و المدرسة الفتاغورية ، دون أن ننسى ظهور الألعاب الأولمبية مع البطل الأسطوري هرقل، وتطور الفلسفة مع الحكماء السبعة والفلاسفة الكبار كسقراط وأفلاطون وأرسطو.

ح‌- ظهـــور الفلسفة اليونانية
لم تظهر الفلسفة اليونانية في البداية إلا في مدينة ملطية الواقعة على ضفاف آسيا الصغرى حيث أقام الأيونيون مستعمرات غنية مزدهرة. وفي هذه المدينة ظهر كل من طاليس وأنكسمندرس وأنكسمانس. وشكلوا مدرسة واحدة في الفلسفة وهي المدرسة الطبيعية أوالمدرسة الكسمولوجية.[4] وتتسم هذه الفلسفة بكونها ذات طابع مادي ترجع أصل العالم إلى مبدإ حسي ملموس، ولا تعترف بوجود الإله الرباني كما سنجد ذلك عند فلاسفة الإسلام الذين اعتبروا أن العالم مخلوق من عدم وأن الله هو الذي خلق هذا الكون لاستخلاف الإنسان فيه. وبعد ذلك انتقلت الفلسفة اليونانية إلى المناطق الأخرى كأثينا وإيطاليا وصقلية أو ما سيشكل اليونان الكبرى.
و مرت الفلسفة اليونانية في مسارها الفكري بثلاث مراحل أساسية:

 طور النشأة أو مايسمى بفلسفة ماقبل سقراط؛

 طور النضج والازدهار ويمتد هذا الطور من سقراط حتى أرسطو؛

طور الجمود والانحطاط و قد ظهر هذا الطور بعد أرسطو وأفلاطون وامتد حتى بداية العصور الوسطى


ظهرت الفلسفة اليونانية أول ما ظهرت مع الحكماء الطبيعيين الذين بحثوا عن العلة الحقيقية للوجود الذي أرجعوه إلى أصل مادي، وكان ذلك في القرن السابع والسادس قبل الميلاد. وكانت فلسفتهم خارجية وكونية أساسها مادي أنطولوجي تهتم بفهم الكون وتفسيره تفسيرا طبيعيا وكوسمولوجيا باحثين عن أصل الوجود بما هو موجود.
ويعد طاليس( 560-548 ق.م) أول فيلسوف يوناني مارس الاشتغال الفلسفي ، وهو من الحكماء السبعة ومن رواد المدرسة الملطية. وقد جمع بين النظر العلمي والرؤية الفلسفية، وقد وضع طريقة لقياس الزمن وتبنى دراسة الأشكال المتشابهة في الهندسة وخاصة دراسته للمثلثات المتشابهة، ولقد اكتشف البرهان الرياضي في التعامل مع الظواهر الهندسية والجبرية أو مايسمى بالكم المتصل والكم المنفصل . وإذا كان هناك من ينسب ظهور الرياضيات إلى فيتاغواس، فإن كانط يعد طاليس أول رياضي في كتابه” نقد العقل النظري”.[6]
وعليه، فطاليس يرجع أصل العالم في كتابه “عن الطبيعة” إلى الماء باعتباره العلة المادية الأولى التي كانت وراء خلق العالم. يؤكد طاليس أن” الماء هو قوام الموجودات بأسرها، فلا فرق بين هذا الإنسان وتلك الشجرة وذلك الحجر إلا الاختلاف في كمية الماء الذي يتركب منها هذا الشيء أو ذاك”.[7]
أما أنكسمندريس( 610-545ق.م) تلميذ طاليس وأستاذ المدرسة المالطية فهو يرى أن أصل العالم مادي يكمن في اللامحدود أو اللامتناهي APEIRON، ويعني هذا أن العالم ينشأ عن اللامحدود ويتطور عن اللامتناهي. وقد تصور امتداد هذا اللامتناهي حتى ظهور الكائنات الحية. وقد آمن انكسمندريس بالصراع الجدلي وبنظرية التطور، وقد قال في هذا الصدد عبارته المشهورة:” إن العوالم يعاقب بعضها بعضا على الظلم الذي يحتويه كل منها”. ومن أهم كتبه الفلسفية ” عن الطبيعة”.
وفي المقابل ذهب إنكسمانس في كتابه “عن الطبيعة” يذهب إلى أن الهواء هو أصل الكون وعلة الوجود الأولى.
وإذا انتقلنا إلى هرقليطس، فهو من مواليد 545ق.م و مؤلف كتاب”عن الطبيعة”، ولد في مدينة أفسوس بآسيا الصغرى تبعد قليلا عن ملطية. وتنبني فلسفته على التغير والتحول، أي إن الكون أساسه التغير والصيرورة والتحول المستمر، فنحن حسب هرقليطس لانسبح في النهر مرتين، كما أثبت أن النار هي أساس الكون وعلة الوجود.
أما بارمندس( من مواليد سنة 540 ق.م) فقد نشأ في مدينة إيليا بمنطقة إيطاليا الجنوبية وصقلية، وترتكز نظريته الفلسفية على الثبات والسكون كما هو موضح في كتابه “عن الطبيعة”، أي إن الوجود هو ثابت وساكن ومناقض للصائر والمتغير، ومن ثم فبارميندس فيلسوف الوجود الثابت وقد كتب فلسفته في قصيدة شعرية وقد قال : الوجود كائن واللاوجود غير كائن”. ومن هنا نستنتج أن أصل الكون الحقيقي عند بارمندس هو الوجود.
أما أمبادوقليس فقد ولد في مدينة أجريجينتا بجزيرة صقلية، وعاش في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد ، وتوفي تقريبا في عام 435 ق.م، وكانت ولادته على وجه التقريب في 490 ق.م، ومن مؤلفاته كتاب “التطهيرات” وهو أقرب إلى كتاب الأساطير والمعاني الدينية منها إلى الفكر العلمي ، و ألف قصيدة فلسفية في قالب شعري “حول الطبيعة” على غرار قصيدة بارمنديس.
ويثبت أنبادوقليس أن الكون أصله الأسطقسات الأربعة: النار والهواء والماء والأرض( التراب). وقد أضاف العنصر الخامس وهو أميل إلى اللطف والسرعة وهو الأثير. وكل عنصر من هذه العناصر تعبر عن آلهة أسطورية خاصة.
ويذهب أكزينوفانوس المتوفى سنة 480ق.م إلى أن أصل الكون هو التراب أو الأرض.
وقد ذهب أنكساغوراس إلى أن أصل الكون هو عدد لا نهاية له من العناصر أو البذور يحركها عقل رشيد بصير.
أما المذهب الذري الذي يمثله كل من ديمقريطيس ولوقيبوس فيرى أن أصل العالم هو الذرات.
ويلاحظ على المدرسة الطبيعة أنها مدرسة مادية تهتم بالطبيعة من منظار كوني ، ويتميز المنهج التحليلي عندهم بالخلط بين العقل و الأسطورة والشعر والتحليل الميتافيزيقي.

 المدرسة الفيتاغورية
تنسب المدرسة الفيتاغورية إلى العالم الرياضي اليوناني الكبير فيتاغورس الذي يعد أول من استعمل كلمة فيلسوف، وكانت بمعنى حب الحكمة، أما الحكمة فكانت لاتنسب سوى للآلهة. ويذهب فيتاغورس إلى أن العالم عبارة عن أعداد رياضية ، كما أن الموجودات عبارة عن أعداد، وبالتالي فالعالم الأنطولوجي عنده عدد ونغم. وتتسم الفيتاغورية بأنها مذهب ديني عميق الرؤية والشعور، كما أنها مدرسة علمية تعنى بالرياضيات والطب والموسيقا والفلك. وقد طرحت الفيتاغورية كثيرا من القضايا الحسابية والهندسية موضع نقاش وتحليل. كما أن الفيتاغورية هيئة سياسية تستهدف تنظيم المدينة /الدولة على أيدي الفلاسفة الذين يحتكمون إلى العقل والمنهج العلمي.

 المدرسة السفسطائية أو مدرسة الشكاك
ظهرت المدرسة السفسطائية في القرن الخامس قبل الميلاد بعدما أن انتقل المجتمع الأثيني من طابع زراعي إقطاعي مرتبط بالقبيلة إلى مجتمع تجاري يهتم بتطوير الصناعات وتنمية الحرف والاعتماد على الكفاءة الفردية والمبادرة الحرة. وأصبح المجتمع في ظل صعود هذه الطبقة الاجتماعية الجديدة (رجال التجارة وأرباب الصناعات) مجتمعا ديمقراطيا يستند إلى حرية التعبير والاحتكام إلى المجالس الانتخابية والتصويت بالأغلبية. ولم يعد هناك ما يسمى بالحكم الوراثي أو التفويض الإلهي، بل كل مواطن حر له الحق في الوصول إلى أعلى مراتب السلطة. لذلك سارع أبناء الأغنياء لتعلم فن الخطابة والجدل السياسي لإفحام خصومهم السياسيين. وهنا ظهر السفسطائيون ليزودوا هؤلاء بأسلحة الجدل والخطابة واستعمال بلاغة الكلمة في المرافعات والمناظرات الحجاجية والخطابية. وقد تحولت الفلسفة إلى وسيلة لكسب الأرباح المادية ولاسيما أن أغلب المتعلمين من طبقة الأغنياء.
ومن أهم الفلاسفة السفسطائيين نذكر جورجياس وكاليكيس وبروتاغوراس. وقد سبب هذا التيار الفلسفي القائم على الشك والتلاعب اللفظي وتضييع الحقيقة وعدم الاعتراف بها في ظهور الفيلسوف سقراط الذي كان يرى أن الحقيقة يتم الوصول إليها ليس بالظن والشك والفكر السفسطائي المغالطي، بل بالعقل والحوار الجدلي التوليدي واستخدام اللوغوس والمنطق.

 المدرسة السقراطية
يعد سقراط ( 486-399م) أب الفلاسفة اليونانيين، وقد أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض. ويعني هذا أن الحكماء الطبيعيين ناقشوا كثيرا من القضايا التي تتعلق بالكون وأصل الوجود وعلته الحقيقية التي كانت وراء انبثاق هذا العالم وهذا الوجود الكوني. وعندما ظهر سقراط غير مجرى الفلسفة فحصرها في أمور الأرض وقضايا الإنسان والذات البشرية فاهتم بالأخلاق والسياسة . وقد ثار ضد السفسطائيين الذين زرعوا الشك والظن ودافع عن الفلسفة باعتبارها المسلك العلمي الصحيح للوصول إلى الحقيقة وذلك بالاعتماد على العقل والجدل التوليدي والبرهان المنطقي. والهدف من الفلسفة لدى سقراط هو تحقيق الحكمة وخدمة الحقيقة لذاتها، وليس الهدف وسيلة أو معيارا خارجيا كما عند السفسطائيين الذين ربطوا الفلسفة بالمكاسب المادية والمنافع الذاتية والعملية. وكان سقراط ينظر إلى الحقيقة في ذات الإنسان وليس في العالم الخارجي، وما على الإنسان إلا أن يتأمل ذاته ليدرك الحقيقة ،لذالك قال قولته المأثورة :” أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك”.

 المدرسة المثالية الأفلاطونية
جاء أفلاطون بعد سقراط ليقدم تصورا فلسفيا عقلانيا مجردا ولكنه تصور مثالي ؛ لأنه أعطى الأولوية للفكر والعقل والمثال بينما المحسوس لا وجود له في فلسفته المفارقة لكل ماهو نسبي وغير حقيقي. ولأفلاطون نسق فلسفي متكامل يضم تصورات متماسكة حول الوجود والمعرفة والقيم.
وقد قسم أفلاطون العالم الأنطولوجي إلى قسمين: العالم المثالي والعالم المادي، فالعالم المادي هو عالم متغير ونسبي ومحسوس. وقد استشهد أفلاطون بأسطورة الكهف ليبين بأن العالم الذي يعيش فيه الإنسان هو عالم غير حقيقي، وأن العالم الحقيقي هو عالم المثل الذي يوجد فوقه الخير الأسمى والذي يمكن إدراكه عن طريق التأمل العقلي والتفلسف. فالطاولة التي نعرفها في عالمنا المحسوس غير حقيقية، أما الطاولة الحقيقية فتوجد في العالم المثالي. و توجد المعرفة الحقيقية في عالم المثل الذي يحتوي على حقائق مطلقة ويقينية وكلية، أما معرفة العالم المادي فهي نسبية تقريبية وجزئية وسطحية، كما تدرك المعرفة في عالم المثل عن طريق التفلسف العقلاني، ومن هنا، فالمعرفة حسب أفلاطون تذكر والجهل نسيان. ويعني هذا أننا كلما ابتعدنا عن العالم المثالي إلا وأصابنا الجهل، لذا فالمعرفة الحقيقية أساسها إدراك عالم المثل وتمثل مبادئه المطلقة الكونية التي تتعالى عن الزمان والمكان. ومن ثم، فأصل المعرفة هو العقل وليس التجربة أو الواقع المادي الحسي الذي يحاكي عالم المثال محاكاة مشوهة.
وعلى مستوى الأكسيولوجيا، فجميع القيم الأخلاقية من خير وجمال وعدالة نسبية في عالمنا المادي ، ومطلقة حقيقية في عالم المثل المطلق والأزلي.
ويؤسس أفلاطون في” جمهوريته الفاضلة ” مجتمعا متفاوتا وطبقيا، إذ وضع في الطبقة الأولى الفلاسفة والملوك واعتبرهم من طبقة الذهب، بينما في الطبقة الثانية وضع الجنود وجعلهم من طبقة الفضة، أما الطبقة السفلى فقد خصصها للعبيد وجعلهم من طبقة الحديد؛ لأنهم أدوات الإنتاج والممارسة الميدانية. ويعني هذا أن أفلاطون كان يأنف من ممارسة الشغل والعمل اليدوي والممارسة النفعية، وكان يفضل إنتاج النظريات وممارسة الفكر المجرد. كما طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته الفاضلة؛ لأنهم يحاكون العالم النسبي محاكاة مشوهة، وكان عليهم أن يحاكوا عالم المثل بطريقة مباشرة دون وساطة نسبية أو خادعة تتمثل في محاكاة العالم الوهمي بدل محاكاة العالم الحقيقي.
وهكذا يتبين لنا أن فلسفة أفلاطون فلسفة مثالية مفارقة للمادة والحس، تعتبر عالم المثل العالم الأصل بينما العالم المادي هو عالم زائف ومشوه وغير حقيقي. كما تجاوز أفلاطون المعطى النظري الفلسفي المجرد ليقدم لنا تصورات فلسفية واجتماعية وسياسية في كتابه” جمهورية افلاطون”[8]. ويلاحظ أيضا أن التصور الأفلاطوني يقوم على عدة ثنائيات: العالم المادي في مقابل العالم المثالي، وانشطار الإنسان إلى روح من أصل سماوي وجسد من جوهر مادي، وانقسام المعرفة إلى معرفة ظنية محسوسة في مقابل معرفة يقينية مطلقة. وعلى المستوى الاجتماعي، أثبت أفلاطون أن هناك عامة الناس وهم سجناء الحواس الظنية و الفلاسفة الذين ينتمون إلى العالم المثالي لكونهم يتجردون من كل قيود الحس والظن وعالم الممارسة.

 مدرسة أرسطو المادية
يعد أرسطو فيلسوفا موسوعيا شاملا ، وكانت فلسفته تنفتح على كل ضروب المعرفة والبحث العلمي، إذ يبحث في الطبيعة والميتافيزيقا والنفس وعلم الحياة والسياسة والشعر وفن الخطابة والمسرح. وقد وضع المنطق الصوري الذي كان له تأثير كبير على كثير من الفلاسفة إلى أن حل محله المنطق الرمزي مع برتراند راسل ووايتهاد.
يذهب أرسطو إلى أن العالم الحقيقي هو العالم الواقعي المادي، أما العالم المثالي فهو غير موجود. وأن الحقيقة لا توجد سوى في العالم الذي نعيش فيه وخاصة في الجواهر التي تدرك عقلانيا. ولا توجد الحقيقة في الأعراض التي تتغير بتغير الأشكال. أي إن الحقيقي هو الثابت المادي، أما غير الحقيقي فهو المتغير المتبدل. ولقد أعطى أرسطو الأولوية لما هو واقعي ومادي على ماهو عقلي وفكري. ومن هنا عد أرسطو فيلسوفا ماديا اكتشف العلل الأربع: العلة الفاعلة والعلة الغائية والعلة الصورية الشكلية والعلة المادية. فإذا أخذنا الطاولة مثالا لهذه العلل الأربع، فالنجار يحيل على العلة الفاعلة والصانعة، أما الخشب فيشكل ماهية الطاولة وعلتها المادية، أما صورة الطاولة فهي العلة الصورية الشكلية، في حين تتمظهر العلة الغائية في الهدف من استعمال الطاولة التي تسعفنا في الأكل والشرب.

 المدرسة الرواقية
تعتمد المدرسة الرواقية التي ظهرت بعد فلسفة أرسطو على إرساء فن الفضيلة ومحاولة اصطناعها في الحياة العملية، ولم تعد الفلسفة تبحث عن الحقيقة في ذاتها ، بل أصبحت معيارا خارجيا تتجه إلى ربط الفلسفة بالمقوم الأخلاقي، وركز الكثيرون دراساتهم الفلسفية على خاصية الأخلاق كما فعل سنيكا الذي قال:” إن الفلسفة هي البحث عن الفضيلة نفسها، وبهذا تتحقق السعادة التي تمثلت في الزهد في اللذات ومزاولة التقشف والحرمان”.وقد تبلور هذا الاتجاه الفلسفي الأخلاقي بعد موت أرسطو وتغير الظروف الاجتماعية والسياسية حيث انصرف التفكير في الوجود إلى البحث في السلوك الأخلاقي للإنسان.
هذا، وقد ارتبطت المدرسة الرواقية بالفيلسوف زينون (336-264ق.م) الذي اقترنت الفلسفة عنده بالفضيلة واستعمال العقل من أجل الوصول إلى السعادة الحقيقية. وتعد الفلسفة عند الرواقيين مدخلا أساسيا للدخول إلى المنطق والأخلاق والطبيعة. وقد كان المنطق الرواقي مختلفا عن المنطق الأرسطي الصوري، وقد أثر منطقهم على الكثير من الفلاسفة والعلماء.

 المدرسة الأبيقورية
تنسب الفلسفة الأبيقورية إلى أبيقور(341-270 ق.م)، وتتميز فلسفته بصبغة أخلاقية عملية، وترتبط هذه الفلسفة باللذة والسعادة الحسية . وتسعى الفلسفة في منظور هذه المدرسة إلى الحصول على السعادة باستعمال العقل التي هي غاية الفلسفة يخدمها المنطق وعلم الطبيعة. أي إن المنطق هو الذي يسلم الإنسان إلى اليقين الذي به يطمئن العقل والذي بدوره يؤدي إلى تحقيق السعادة. ويهدف علم الطبيعة إلى تحرير الإنسان من مخاوفه وأحاسيسه التي تثير فيه الرعب. ويعني هذا أن الفلسفة لابد أن تحرر الإنسان من مخاوفه وقلقه والرعب الذي يعيشه في الطبيعة بسبب الظواهر الجوية والموت وغير ذلك.

 المدرسة الإسكنـــدرية
انتقلت الفلسفة إلى مدينة الإسكندرية التي بناها الإسكندر المقدوني إبان العصر الهيليني، وكانت مشهورة بمكتبتها العامرة التي تعج بالكتب النفيسة في مختلف العلوم والفنون والآداب. ومن أشهر علماء هذه المدرسة أقليديس وأرخميديس واللغوي الفيلولوجي إيراتوستن. وقد انتعشت هذه المدرسة في القرون الميلادية الأولى وامتزجت بالحضارة الشرقية مع امتداد الفكر الديني والوثني وانتشار الأفكار الأسطورية والخرافية والنزعات الصوفية.
ومن مميزات هذه المدرسة التوفيق بين آراء أفلاطون المثالية وأرسطو المادية، والتشبع بالمعتقدات الدينية المسيحية واليهودية والأفكار الوثنية من زرادشتية ومانوية وبوذية، والفصل بين العلم والفلسفة بعد ظهور فكرة التخصص المعرفي.، والاهتمام بالتصوف و التجليات العرفانية والغنوصية والانشغال بالسحر والتنجيم والغيبيات والإيمان بالخوارق.
وقد تشبعت الفلسفة الأفلاطونية بهذا المزيج الفكري الذي يتجسد في المعتقدات الدينية والمنازع الصوفية وآراء الوثنية، فنتج عنها فلسفة غربية امتزجت بالطابع الروحاني الشرقي، وذلك من أجل التوفيق بين الدين والفلسفة. بيد أن الذين كانوا يمارسون عملية التوفيق كانوا يعتقدون أنهم يوفقون بين أرسطو وأفلاطون، ولكنهم كانوا في الحقيقة يوفقون بين أفلاطون وأفلوطين؛ مما أعطى هجينا فكريا يعرف بالأفلوطينية الجديدة. ومن أشهر فلاسفة المدرسة الإسكندرية نستحضر كلا من فيلون وأفلوطين اللذين كانت تغلب عليهما النزعة الدينية والتصور المثالي في عملية التوفيق. وتتميز فلسفة أفلوطين بكونها عبارة عن” مزيج رائع فيه قوة وأصالة بين آراء أفلاطون والرواقيين وبين الأفكار الهندية والنسك الشرقي والديانات الشعبية المنتشرة آنذاك.
والطابع العام لفلسفته هو غلبة الناحية الذاتية فيها على الناحية الموضوعية، فهي فلسفة تمتاز بعمق الشعور الصوفي والمثالية الأفلاطونية ووحدة الوجود الرواقية، وكلها عناصر يقوي بعضها بعضا ويشد بعضها بأزر بعض، حتى لتخال وأنت تقراها كأنك أمام شخص لا خبرة له بالعالم الموضوعي أو يكاد. فالمعرفة عنده وعند شيعته تبدأ من الذات وتنتهي إلى الله دون أن تمر بالعالم المحسوس؛ هذه المعرفة الذاتية الباطنية هي كل شيء عندهم”.[11]
——————————————————————————–
الهوامش:
[1]- ول ديورانت: قصة الفلسفة، مكتبة المعارف، بيروت، لبنان، بيروت، ط3 ، 1975،ص:5؛
[2] – نفس المرجع، ص:5-6؛
[3] – نفسه، ص:6-7؛
[4] – جون بيير فرنان: من دفاتر فلسفية، ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي ومحمد سبيلا، الجزء1، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، ص:14؛
[5] – د. محمد عبد الرحمن مرحبا: من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، منشورات عويدات بيروت، باريس،ط2 ، 1981،ص:85؛
[6] – د. نجيب بلدي: دروس في تاريخ الفلسفة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء ، ط 1، 1987، ص:13؛
[7] – أحمد أمين وزكي نجيب محمود: قصة الفلسفة اليونانية،ص: 21؛
[8] – أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز، دار القلم، بيروت، لبنان، بدون تاريخ للطبعة؛
[9] – د. توفيق الطويل: الفلسفة في مسارها التاريخي، دار المعارف القاهرة، مصرط1 ، 1977، ص:14؛
[10] – نفسه، ص: 14-15؛
[11] – د. محمد عبد الرحمن مرحبا: نفس المرجع، ص: 228؛








ثانيا الفلسفة الاسلامية


مفهوم الفلسفة في الإسلام

أقرب كلمة مستخدمة في النصوص الإسلامية الأساسية (القرآن والسنة) لكلمة فلسفة هي كلمة (حكمة)، لهذا نجد الكثير من الفلاسفة المسلمين يستخدمون كلمة (حكمة) كمرادف لكلمة (فلسفة) التي دخلت إلى الفكر العربي الإسلامي كتعريب لكلمة Philosophy اليونانية. وإن كانت كلمة فلسفة ضمن سياق الحضارة الإسلامية بقيت ملتصقة بمفاهيم الفلسفة اليونانية الغربية، فإن عندما نحاول أن نتحدث عن فلسفة إسلامية بالمفهوم العام كتصور كوني وبحث في طبيعة الحياة : لا بد أن نشمل معها المدراس الأخرى تحت المسميات الأخرى : وأهمها علم الكلام وأصول الفقه وعلوم اللغة (راجع : تمهيد في تاريخ الفلسفة الإسلامية،) مصطفى عبد الرازق.
و أهم ما يواجه الباحث أن كلا من هذه المدارس قد قام بتعريف الحكمة أو الفلسفة وفق رؤيته الخاصة واهتماماته الخاصة في مراحل لاحقة دخل المتصوفة في نزاعات مع علماء الكلام والفلاسفة لتحديد معنى كلمة الحكمة التي تذكر في الأحاديث النبوية وكثيرا ما استخدم العديد من أعلام الصوفية لقب (حكيم) لكبار شخصياتهم مثل الحكيم الترمذي. بأي حال فإن لقب (فيلسوف/فلاسفة) ظل حصرا على من عمل في الفلسفة ضمن سياق الفلسفة اليونانية ومن هنا كان أهم جدل حول الفلسفة هو كتابي (تهافت الفلاسفة للغزالي وتهافت التهافت لابن رشد

بدايات الفلسفة الإسلامية

إذا اعتبرنا تعريف الفلسفة على أنها محاولة بناء تصور ورؤية شمولية للكون الحياة، فإن بديات هذه الأعمال في الحضارة الإسلامية بدأت كتيار فكري في البدايات المبكرة للدولة الإسلامية بدأ بعلم الكلام، ووصل الذروة في القرن التاسع عندما أصبح المسلمون على إطلاع بالفلسفة اليونانية القديمة والذي أدى إلى نشوء رعيل من الفلاسفة المسلمين الذين كانوا يختلفون عن علماء الكلام.
علم الكلام كان يستند أساسا على النصوص الشرعية من قرآن وسنة وأساليب منطقية لغوية لبناء أسلوب احتجاجي يواجه به من يحاول الطعن في حقائق الإسلام، في حين أن الفلاسفة المشائين، وهم الفلاسفة المسلمين الذين تبنوا الفلسفة اليونانية، فقد كان مرجعهم الأول هو التصور الأرسطي أو التصور الأفلوطيني الذي كانوا يعتبرونه متوافقا مع نصوص وروح الإسلام. و من خلال محاولتهم لاستخدام المنطق لتحليل ما إعتبروه قوانين كونية ثابتة ناشئة من إرادة الله، قاموا بداية بأول محاولات توفيقية لردم بعض الهوة التي كانت موجودة أساسا في التصور لطبيعة الخالق بين المفهوم الإسلامي لله والمفهوم الفلسفي اليوناني للمبدأ الأول أو العقل الأول.
تطورت الفلسفة الإسلامية من مرحلة دراسة المسائل التي لا تثبت إلا بالنقل والتعبّد إلى مرحلة دراسة المسائل التي ينحصر إثباتها بالأدلة العقلية ولكن النقطة المشتركة عبر هذا الإمتداد التأريخي كان معرفة الله وإثبات الخالق [2]. بلغ هذا التيار الفلسفي منعطفا بالغ الأهمية على يد ابن رشد من خلال تمسكه بمبدأ الفكر الحر وتحكيم العقل على أساس المشاهدة والتجربة [3]. أول من برز من فلاسفة العرب كان الكندي الذي يلقب بالمعلم الأول عند العرب، من ثم كان الفارابي الذي تبنى الكثير من الفكر الأرسطي من العقل الفعال وقدم العالم ومفهوم اللغة الطبيعية. أسس الفارابي مدرسة فكرية كان من أهم اعلامها : الأميري والسجستاني والتوحيدي. كان الغزالي أول من أقام صلحا بين المنطق والعلوم الإسلامية حين بين أن أساسيب المنطق اليوناني يمكن ان تكون محايدة ومفصولة عن التصورات الميتافيزيقية اليونانية. توسع الغزالي في شرح المنطق واستخدمه في علم أصول الفقه، لكنه بالمقابل شن هجوما عنيفا على الرؤى الفلسفية للفلاسفة المسلمين المشائين في كتاب تهافت الفلاسفة، رد عليه لاحقا ابن رشد في كتاب تهافت التهافت.
في إطار هذا المشهد كان هناك دوما اتجاه قوي يرفض الخوض في مسائل البحث في الإلهيات وطبيعة الخالق والمخلوق وتفضل الاكتفاء بما هو وارد في نصوص الكتاب والسنة، هذا التيار الذي يعرف "بأهل الحديث" والذي ينسب له معظم من عمل بالفقه الإسلامي والاجتهاد كان دوما يشكك في جدوى أساليب الحجاج الكلامية والمنطق الفلسفية. و ما زال هناك بعض التيارات الإسلامية التي تؤمن بأنه "لا يوجد فلاسفة للإسلام"، ولا يصح إطلاق هذه العبارة، فالإسلام له علماؤه الذين يتبعون الكتاب السنة، أما من اشتغل بالفلسفة فهو من المبتدعة الضُّلال" )4).
في مرحلة متأخرة من الحضارة الإسلامية، ستظهر حركة نقدية للفلسفة أهم أعلامها : ابن تيمية الذي يعتبر في الكثير من الأحيان أنه معارض تام للفلسفة وأحد أعلام مدرسة الحديث الرافضة لكل عمل فلسفي، لكن ردوده على أساليب المنطق اليوناني ومحاولته تبيان علاقته بالتصورات الميتافيزيقية (عكس ما أراد الغزالي توضيحه) وذلك في كتابه (الرد على المنطقيين) اعتبر من قبل بعض الباحثين العرب المعاصرين بمثابة نقد للفلسفة اليونانية أكثر من كونه مجرد رافضا لها، فنقده مبني على دراسة عميقة لأساليب المنطق والفلسفة ومحاولة لبناء فلسفة جديدة مهدت للنقلة من واقعية الكلي إلى اسميته.
التناقض مع الفلسفة اليونانية
كان مفهوم الخالق الأعظم لدى الفلاسفة اليونانيين يختلف عن مفهوم الديانات التوحيدية. فالخالق الأعظم في منظور أرسطو وأفلاطون لم يكن على إطلاع بكل شيء ولم يظهر نفسه للبشر عبر التاريخ ولم يخلق الكون وسوف لن يحاسبهم عند الزوال وكان أرسطو يعتبر فكرة الدين فكرة لاترتقي إلى مستوى الفلسفة.

طاليس أو تاليس يعتبره البعض أول الفلاسفة اليونان
يمكن تقسيم الفلسفة اليونانية القديمة بصورة عامة إلى مرحلتين

مرحلة ماقبل سقراط
 التي إتسمت برفضها للتحليلات الميثولوجية التقليدية للظواهر الطبيعية وكان نوع التساؤل في حينها (من أين أتى كل شيء ؟) وهل يمكن وصف الطبيعة باستعمال قوانين الرياضيات وكان من اشهرهم طاليس الذي يعتبره البعض أول فيلسوف يوناني حاول إيجاد تفسيرات طبيعية للكون والحياة لاعلاقة لها بقوى إلهية خارقة فعلى سبيل المثال قال ان الزلازل ليس من صنيعة إله وإنما بسبب كون الأرض اليابسة محاطة بالمياه وكان أناكسيماندر أيضا من ضمن هذا الرعيل وكان يؤمن بالقياسات والتجربة والتحليل المنطقي للظواهر وكان يعتقد ان بداية كل شيء هي كينونة لامتناهية وغير قابلة للزوال وتتجدد باستمرار، من الفلاسفة الآخرين في هذا الجيل، بارمنيدس، ديمقراطيس، أناكسيمين ميلتوسي [5] [6.
مرحلة سقراط وما بعده والتي تميزت باستعمال طريقة الجدل والمناقشة في الوصول إلى تعريف وتحليل وصياغة أفكار جديدة وكان هذا الجدل عادة مايتم بين طرفين يطرح كل طرف فيهما نظرته بقبول أو رفض فكرة معينة وبالرغم من أن سقراط نفسه لم يكتب شيئا ملموسا إلا ان طريقته أثرت بشكل كبير على كتابات تلميذه أفلاطون ومن بعده أرسطو.من وجهة نظر أفلاطون فإن هناك فرقا جوهريا بين المعرفة الإيمان فالمعرفة هي الحقيقة الخالدة أما الإيمان فهو إحتمالية مؤقتة [7] أما أرسطو فقد قال إنه لمعرفة وجود شيء ما علينا معرفة سبب وجوده ووجود أو كينونة فكرة الخالق الأعظم حسب أرسطو هو فكرة التكامل والمعرفة على عكس فكرة المخلوق الباحث عن الكمال ولتوضيح فكرته أورد أرسطو مثال التمثال وقال ان هناك 4 أسباب لوجود تمثال :
أسباب مادية مرده إلى المادة التي صنع منها التمثال.
أسباب غرضية مرده إلى الغرض الرئيسي من صنع التمثال.
أسباب حرفية مرده الشخص الذي قام بصنع التمثال.
أسباب إرضائية مرده الحصول على رضا الشخص الذي سيشتري التمثال [8.
استفاد أرسطو من نظرية سقراط القائلة إن كل شيء غرضه مفيد لابد ان يكون نتيجة لفكرة تتسم بالذكاء وإستنادا إلى هذه الفكرة إستنتج أرسطو ان الحركة وإن كانت تبدو عملية لا متناهية فإن مصدرها الثبات وإن هذه الكينونة الثابتة هي التي حولت الثبات إلى حركة وهذه الكينونة الأولية هي إنطباع أرسطو عن فكرة الخالق الأعظم لكن أرسطو لم يتعمق في كيفية وغرض منشأ الكون من الأساس [9.
الفلسفة اليونانية في الفلسفة الإسلامية المبكرة

في العصر الذهبي للدولة العباسية وتحديدا في عصر المأمون بدأ العصر الذهبي للترجمة ونقل العلوم الإغريقية والهلنستية إلى العربية مما مهد لانتشار الفكر الفلسفي اليوناني بشكل كبير وكانت المدرسة الفلسفية الكثر شيوعا خلال العصر الهلنستي هي المدرسة الإفلاطونية المحدثة Neoplatonism التي كان لها أكبر تأثير في الساحة الإسلامية في ذلك الوقت. تحاول الفلسفة الإفلاطونية المحدثة التي أحدثها أفلوطين أساسا الدمج بين الفكر الأرسطي والأفلاطوني والتوفيق بينهما ضمن إطار معرفي واحد وتصور وحيد لعالم ماتحت القمر وما فوق القمر. الأفلاطونية المحدثة أيضا ترتبط ارتباطا وثيقا بالمفاهيم الغنوصية التي تتوافق مع بعض أفكار الديانات المشرقية القديمة. أهم تجليات هذه الأفلاطونية المحدثة والغنوصية تجلت في أفكار أخوان الصفا في رسائلهم والتي شكلت الإطار الفكري المرجعي للفكر الباطني.
لاحقا بدأت تظهر من جديد عملية فصل للمدرستين الإفلاطونية والأرسطية، حيث ظهر العديد من العجبين بقوة بناء النظام الفكري الأرسطي وقوة منطقه واستنتاجه وكان أهم شارحيه وناشري المدرسة الأرسطية هو ابن رشد، لم تعدم الاسحة الإسلامية أيضا انتقال بعض الأفكار الشكوكية التي عمدت إلى نقد الأفكار الميتافيزيقية الإسلامية وكانت تبدي الكثير من الأفكار التي توصف بالإلحاد حاليا اهمهم : ابن الراوندي ومحمد بن زكريا الرازي.
الهرمسية والإفلاطونية المحدثة
أول ما وجد في منطقة الشرق الأدنى (سوريا والعراق ومصر) بعد دخول الإسلام من دراسات فلسفية كانت الثقافة الهيلينية التي كانت تسيطر عليها الإفلاطونية المحدثة إضافة إلى الهرمسية التي كانت مختلطة بجماعات الصابئة في حران وعقائد وأفكار المانوية والزرادشتية. تشكل الهرمسية والإفلاطونية المحدثة مجموعة رؤى هرمسية وإطار فلسفي لرؤية كونية غنوصية أو تدعى أحيانا يالعرفانية. تنسب الهرمسية كعلوم وفلسفة دينية إلى هرمس المثلث بالحكمة الناطق باسم الإله.غير ان العديد من البحاث الحديثة (أهمها دراسة فيستوجير) تؤكد أن تلك المؤلفات الهرمسية ترجع إلى القرنين الثاني والثالث للميلاد وقد كتبت في مدينة الإسكندرية من طرف أساتذة يونانيين. وبشكل عام تقدم الرؤية الهرمسية تصورا بسيطا عبارة عن إله متعال منزه عن عن كل نقص ولا تدركه الأبصار ولا العقول. بمقابله توجد المادة وهي أصل الفوضى والشر والنجاسة. أما الإنسان فهو مزبج جسم مادي غير طاهر، يسكنه الشر ويلابسه الموت، وجزء شريف أصله من العقل الكلي الهادي هو النفس الشريفة. تتصارع في الإنسان جزءاه الطاهر والنجس وتتصارع فيه الهواء بين رغبة بالالله ورغبة في الشر لذلك جاء الإله هرمس ليقوم بالوساطة بين الإنسان والإله المالله بتوسط العقل الكلي الهادي ليعلم الناس طريق الخلاص والاتحاد بالاله المالله (و هنا يحدث الفناء في مصطلح الصوفية). لكن هذا الطريق صعب لا يتحمله إلا النبياء والأتقياء والحكماء. النفس كائنات إلهية عوقبت بعد ارتكابها إثم لتنزل وتسجن في الأبدان ولا سبيل لخلاصها إلا بالتطهر والتأمل للوصول إلى المعرفة، هذه المعرفة لا تتم عن طريق البحث والاستدلال بل عن طريق ترقي النفس في المراتب الكونية والعقول السماوية.
عدم الفصل بين العالم العلوي والعالم السفلي، وقدرة النفس على التواصل مع العقول السماوية والإله المالله، إلهية النفس البشرية وشوقها للاتحاد والاندماج في الاله أو حلول الاله في العالم، وحدة الكون وتبادل التأثير بين مختلف الكائنات (نباتات، حيوانات، إنسان، اجرام سماوية سبعة أو الكواكب)، الدمج بين العلم والدين وعدم الاعتراف بسببية منتظمة في الطبيعة، دراسة العناصر وتحولاتها بشكل ممتزج مع السحر والتنجيم (أصول الخيمياء) : كل هذا يشكل مباديء الهرمسية والعرفانية وتشكل الأفلاكونية المحدثة عن طريق العقول السماوية العشرة ونظرية الفيض التي تنتقل من خلالها المعرفة من العقل الأول إلى الإنسان وبالعكس الإطار الفلسفي لهذه الأفكار.
فلسفة أرسطو

لم يدخل أرسطو إلى الساحة العربية الإسلامية إلا بعد حملة الترجمة التي قام بها الخليفة المأمون. وتذكر المصادر ان أول كتب تمت ترجمته لأرسطو كان كتاب "السماء والعالم" من قبل يوحنا البطريق عام 200 هـ لكن حنين بن اسحاق اضطر إلى إعادة ترجمتها عام 260 هـ ويمكن اعتبار بداية دخول أرسطو الحقيق تمت على يد حنين وابنه اسخاق سنة 298 هـ. أما أرسطو المنحول فقد دخل عن طريق كتاب "أتولوجيا" الذي ترجمه ابن ناعمة الحمصي عام 220 هـ. ويبدو أن ابن المقفع وابنه محمد قد قاما أيضا بترجمة بعض كتب أرسطو مثل كتب الأرغانون وكتاب التحليلات الأولى وكتاب المنطق لفورفوريوس. ويؤكد بول كراوس أنه لم يتم خلال الفترة الأولى قبل المامون ترجمة أي شيء عدا الأجزاء الثلاثة الأولى من الأرغانون التي تتناول المنطق فقط دون الفلشفة الولى والطبيعة على عادة المسيحيين السريان، لكن حركة الترجمة في عصر المأمون مددت ذلك لتشمل كتب أرسطو غير المنطقية. ويكفي أن نعرف ان كتاب التحليلات الثانية أو البرهان لم يترجم للعربية إلا في القرن الرابع الهجري على يد أبي بشر متى عام 328 هـ [1].
(تاريخ الفلسفة في العالم الإسلامي

علم الكلام والمعتزلة
كان علم الكلام مختصا بموضوع الإيمان العقلي بالله وكان غرضه الانتقال بالمسلم من التقليد إلى اليقين وإثبات أصول الدين الإسلامي بالأدلة المفيدة لليقين بها. علم الكلام كان محاولة للتصدي للتحديات التي فرضتها الالتقاء بالديانات القديمة التي كانت موجودة في بلاد الرافدين أساسا (مثل المانوية والزرادشتية والحركات الشعوبية) وعليه فإن علم الكلام كان منشأه الإيمان على عكس الفلسفة التي لا تبدأ من الإيمان التسليمي، أو من الطبيعة، بل تحلل هذه البدايات نفسها إلى مبادئها الأولى [10]. هناك مؤشرات على إن بداية علم الكلام كان سببه ظهور فرق عديدة بعد وفاة الرسول محمد ،ومن هذه الفرق : [11]:
المعتزلة (القدرية) لإنكارهم القدر.
الجهمية (الجبرية) أتباع جهم بن صفوان كانوا يقولون إن العبد مجبور في أفعاله لا اختيار له.
الخوارج .
الاشاعرة والماتريدية والصوفية والمرجئة يأولون بعض الأسماء والصفات.
الإمامية الزيدية الاسماعيليةوالعلويةوالشيعة بشكل عام.
الاباضيةوهي فرقة من الخوارج [12]
كان نشأة علم الكلام في التاريخ الإسلامي نتيجة ما إعتبره المسلمون ضرورة للرد على ما إعتبروه بدعة من قبل بعض "‏الفرق الضالة" وكان الهدف الرئيسي هو إقامة الأدلة وإزالة الشبه ويعتقد البعض إن جذور علم الكلام يرجع إلى الصحابة والتابعين ويورد البعض على سبيل المثال رد ابن عباس وابن عمر وعمر بن عبد العزيز والحسن بن محمد ابن الحنفية على المعتزلة، ورد علي بن أبي طالب على الخوارج ورد إياس بن معاوية المزني على القدرية والتي كانت شبيهة بفرضية الحتمية. كان علم الكلام عبارة عن دراسة "أصول الدين" التي كانت بدورها تتمركز على 4 محاور رئيسية وهي: [13]
الالوهية: البحث عن اثبات الذات والصفات الالهية.
النبوة: عصمة الأنبياء وحكم النبوة بين الوجوب عقلاً، وهو مذهب المعتزلة والجواز عقلاً، وهو مذهب الاشاعرة.
الامامة: الآراء المتضاربة حول رئاسة العامة في أمور الدين والدنيا لشخص من الاشخاص نيابة عن النبي محمد.
المعاد: فكرة يوم القيامة وإمكان حشر الاجسام. ويدرج البعض عناوين فرعية أخرى مثل "العدل" و"الوعد" و"الوعيد" و"القدر" و"المنزلة" [14].

كان يعقوب بن اسحاق الكندي (805 - 873) أول مسلم حاول استعمال المنهج المنطقي في دراسة القرآن، كانت أفكار الكندي متأثرا نوعا ما بفكر المعتزلة ومعارضا لفكر أرسطو من عدة نواحي. نشأ الكندي في البصرة وإستقر في بغداد وحضي برعاية الخليفة العباسي المأمون، كانت اهتمامات الكندي متنوعة منها الرياضيات والعلم الفلسفة لكن اهتمامه الرئيسي كان الدين [15].
بسبب تأثره بالمعتزلة كان طرحه الفكري دينيا وكان مقتنعا بأن حكمة الرسول محمد النابعة من الوحي تطغى على إدراك وتحليل الإنسان الفيلسوف هذا الرأي الذي لم يشاركه فيه الفلاسفة الذين ظهروا بعده. لم يكن اهتمام الكندي منصبا على دين الإسلام فقط بل كان يحاول الوصول إلى الحقيقة عن طريق دراسة الأديان الأخرى وكانت فكرته هو الوصول إلى الحقيقة من جميع المصادر ومن شتى الديانات والحضارات [16].
كان الخط الفكري الرئيسي للكندي عبارة عن خط ديني إسلامي ولكنه إختلف عن علماء الكلام بعدم بقاءه في دائرة القرآن السنة وإنما خطى خطوة إضافية نحو دراسة الفلسفة اليونانية وقام باستعمال فكرة أرسطو والتي كانت مفادهاان الحركة وإن كانت تبدو عملية لا متناهية فإن مصدرها الثبات وإن هذه الكينونة الثابتة هي التي حولت الثبات إلى حركة فقام الكندي بطرح فكرة مشابهة ألا وهي إن لا بد من وجود كينونة ثابتة وغير متحركة لتبدأ نقطة إنطلاق حركة ما. كان الكندي لحد هذه النقطة موافقا لأرسطو ولكنه ومن هذه النقطة أدار ظهره لفكر أرسطو ولجأ إلى القرآن لتكملة فكرته عن الخلق والنشوء وإقتنع بأن الله هو الثابت وإن كل المتغيرات نشأت بإرادته [17].
لكن الفلسفة التقليدية اليونانية كانت لاتعترف بهذه الفكرة على الإطلاق وعليه فإن الكندي حسب تعريف المدرسة الفكرية اليونانية لايمكن وصفه بفيلسوف حقيقي ولكنه كان ذو تأثير على بداية تيار فكري حاول التناغم بين الحقيقة الدينية الميتافيزيقيا [18].
و في عصره (عصر المعتصم) سيحاول الكندي أن ينخرط في معركة "نصرة العقل" ضد أفكار الهرمسية والأفلاطونية المحدثة لذلك سنجده يؤلف "الرد على المنانية والمثنوية" وسيرفض نظرية الهرمسية والأفلاطونية المحدثة عن وجود جملة من العقول السماوية (و هي الطريقة التي تجعل بها الهرمسية وسائط بين العقل الكلي أو العقل العاشر الفعال والإنسان) وهي أساس نظرية الفيض التي تجعل معرفة الإنسان قابلة للحصول عن طريق الفيض أو الغنوص [1]. يرفض الكندي هذا الاتصال ويميز بين "علم الرسل" الذي يحدث عن طريق الوحي (الوسيلة الوحيدة بين الله والإنسان) و"علم سائر البشر" الذي لا يحدث إلا عن طريق البحث والاستدلال والاستنتاج. في مجال الوجود وعلى عكس الفلاسفة اللاحقين سيتنى الكندي فكرة "حدوث العالم" مستندا إلى مجموعة من المفاهيم الأرسطية : فجرم العالم متناه والزمان متناه أيضا والحركة متناهية، إذا العالم متناه ومحدث : حسب تعبير الكندي : " الله هو العلة الأولى التي لا علة لها الفاعلة التي لا فاعل لها المتممة التي لا متمم لها، المؤيس الكل عن ليس والمصير بعضه لبعض سببا وعلة ". وواضح هنا أن أثر الثقافة الإسلامية واضح في كلام الكندي الذي لم يصله الكثير بعد من ترجمات كتب أرسطو.
إضافة لذلك يقرر الكندي أن الحقيقية الدينية والحقيقة الفلسفية واحدة فلا تناقض بينهما، غير أن ظاهر النص قد يوحي ببعض الاختلاف إذا لم يعمل العقل في مجال تأويل معقول.
بالمقابل سيؤلف الكندي "رسالة في الفلسفة الأولى" ليهديها إلى الخليفة المعتصم وهي بمجملها تخطئة لموقف الفقهاء والمتكلمين من علوم الأوائل (الفلسفة) والدعوة إلى الاستفادة لما ورد في علوم الأوائل من علوم مفيدة. الرسالة بمجملها تعتبر دفاعا عن الفلسفة وسط حالة الرفض لكل ما هو أجنبي لكنها لاترقى إلى تأسيس فهم وترسيخ الفكر الأرسطي بشكل واضح [1].

تميز الجيل الذي ظهر بعد الكندي بصفة أكثر حزما وراديكالية، فكان أبو بكر الرازي (864 - 923) الذي وصف بكونه ذو تيار فكري رفض إقحام الدين في شؤون العقل ورفض في نفس الوقت نظرة أرسطو للميتافيزيقيا وكان فكره أقرب إلى الغنوصية أو (العارفية) حيث قال الرازي إن من المستحيل ان يكون منشأ المادة عبارة عن كينونة روحية ورفض الرازي أيضا فكرة والتي كانت مفادهاان الحركة وإن كانت تبدو عملية لا متناهية فإن مصدرها الثبات ورفض في نفس الوقت تحاليل علماء الكلام عن الوحي والنبوة [19].
كان الرازي مقتنعا إن التحليل العقلي والمنطقي هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى المعرفة وعليه فإن الكثير من المؤرخين لايعتبرون الرازي مسلما بالمعنى التقليدي للمسلم ويرى الكثيرون انه كان الإنعطافة الحقيقية الأولى نحو الفلسفة والفيلسوف كما كان يعرف في الحضارة اليونانية. كان الرازي طبيبا بارعا ومديرا لمستشفى في الري في إيران وكان جريئا في مناقشة التيار الفكري الذي سبقه وكان مؤمنا إن الفيلسوف الحقيقي لايستند على تقاليد دينية بل يجب عليه التفكير بمنآى عن تأثير الدين وكان مقتنعا إن الاعتماد على الدين غير مثمر لإختلاف الأديان المختلفة في وجهات النظر حول الخلق وماهية الحقيقة [20].
أكبر نقد تم توجيهه إلى الرازي كان نقدا عميقا جدا بالرغم من بساطته والنقد البسيط العميق كان إذا كانت الفلسفة الطريقة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة فماذا عن عامة الناس أو الناس البسطاء الغير قادرين على التفكير الفلسفي هل يعني هذا بأنهم تائهون للابد، يأتي أهمية هذا النقد بسبب كون الفلسفة في المجتمع الإسلامي ولحد هذا اليوم مرتبطة بطبقة النخبة وباشخاص إتسموا بذكاء عالي وهذا كان مناقضا لمفهوم الأمة الإسلامية الواحدة والأفكار الروحية المفهومة من قبل الجميع وليس البعض [21].


الفارابي كما يظهر على عملة كازاخستان.
بدأ الفارابي من من نقطة الإنتقاد الموجهة للرازي وللفلسفة بصورة عامة وكان النقد عبارة عن فائدة الفلسفة في تنظيم الحياة اليومية للإنسان البسيط الذي يرى الفلسفة شيئا بعيدا كل البعد عن مستوى أستيعابه ولايجد في ذلك النوع من المناقشات اي دور عملي ملموس في حياته اليومية. حاول أبو نصر محمد الفارابي (874 - 950) الفيلسوف من تركستان تضييق حجم الفجوة بين المسلم البسيط والفلسفة ويعتبره البعض رائدا في هذا المجال حيث حاول في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة" التطرق إلى القضايا الاجتماعية والسياسية المتعلقة بالإسلام. في كتاب "الجمهورية" طرح أفلاطون فكرة إن المجتمع المثالي يجب أن يكون قائده فيلسوفا يحكم حسب قوانين العقل المنطق وتبسيطها لتصبح مفهومة من قبل الإنسان البسيط. من هذه الفكرة حاول الفارابي ان يطرح فكرته حول إن الرسول محمد كان بالضبط ما حاول أفلاطون ان يوضحه عن صفات قائد "المجتمع الفاضل" لقدرته حسب تعبير الفارابي من تبسيط اللهم روحية عليا وإيصالها إلى الإنسان البسيط [22].
بهذه النظرة إبتعد الفارابي كليا عن مفهوم الخالق في الفلسفة اليونانية الذي كان بعيدا كل البعد عن هموم الإنسان البسيط والذي لم يخاطب الإنسان يوما، ولكن الفارابي ضل ملتقيا مع فكر أرسطو في نقطة إن قرار الخلق لم يكن عبثيا ولا متسرعا. استخدم الفارابي فكرة النشوء اليونانية التي كانت تختلف عن فكرة الخلق في الديانات التوحيدية فحسب النظرية اليونانية فإن النشوء يبدأ من كينونة أولية ثابتة ولكن سلسلة النشآت تخضع لقوانين طبيعية بحتة وليست لقوانين دينية أو إلهية [23]. حاول الفارابي تطويع هذه الفكرة من النظرة التوحيدية للخلق فقال إن الإنسان بالرغم من منشأه على هذه الأرض فإنه إمتداد لسلسلة من أطوار النشوء التي بدأت من المصدر إلى السماء العلى إلى الكواكب والشمس والقمر وإن الإنسان له القدرة بأن يزيل أتربة هذه التراكمات من النشوء لكي يرجع إلى الخالق الأولي وكان هذا التحليل بالطبع مخالفا لفكرة القرآن عن خلق الإنسان [24]
الكثير من الدراسات تعتبر الفارابي أهم من استطاع إيصال وشرح علوم المنطق بالعربية، بالمقابل سنجد أن الفارابي كان يشغله هاجس الوحدة والتوحيد في ظل دول وإمارات إسلامية متفرقة في عهد الدولة الحمدانية، كان الفارابي يتطلع لتوحيد الملة عن طريق توحيد الفكر لذلك سنجده يحاول التوحيد بين الأمة (الشريعة) والفلسفة في كتاب الحروف [1] وسيحاول أن يجمع بين رأي الحكيمين : أفلاطون وأرسطو في كتاب الجمع بين الحكيمين [2]، وسنجده أيضا عكس الكندي يحاول أن يدخل العرفان أو الغنوص في منظومته الفكرية فيقبل نظرية العقول السماوية والفيض لكن العرفان لا يتحقق عند الفارابي بنتيجة النفس والتأمل بل المعرفة والسعادة (الصوفية العرفانية) هي نتيجة المعرفة عن طريق البرهان. وكما في نظرية الإفلاطونية المحدثة : العقل الأول الواجب الوجود لا يحتاج شيئا معه بل يفيض وجوده فيشكل العقل الثاني فالثالث حتى العقل العاشر التي يعطي الهيولى والمادة التي تتشكل منها العناصر الأربعة للطبيعة : الماء والهواء والنار والتراب. والدين والفلسفة يخبراننا الحقيقة الواحدة فالفلسفة تبحث وتقرر الحقائق والدين هو الخيالات والمثالات التي تتصور في نفوس العامة لما هي عليه الحقيقة، وكما تتوحد الفلسفة مع الشريعة والملة كذلك يجب أن تبنى المدينة الفاضلة على غرار تركيب الكون والعالم بحيث تحقق النظام والسعادة للجميع. هذا كان حلم الفارابي المقتبس من فكرة المدينة الفاضلة لأفلاطون [3].
كتاب الحروف
يحتل كتاب الحروف للفارابي أهمية خاصة بين أعماله ويعتبر الكتاب بحثا في الفلسفة الأولى، إضافة إلى نقاش علماء اللغة والكلام حول الكثير من الإشكاليات التي كانت تتعلق أساسا بعلاقة اللغة والمنطق وإشكالية اللفظ/المعنى عن طريق محاولة استنتاجية منطقية لتأسيس مفهوم الكلي وتشريع دور المنطق في البيئة الإسلامية التي كانت رافضة لها. يحاول الفارابي بداية شرح كيفية تكون المعرفة بدءا من الإحساس فالتجربة فالتذكر فالفكرة من ثم نشأة العلوم العملية والنظرية [4]. وبين الفكرة ونشأة العلوم يضع الفارابي مرحلة نشوء اللغة : فبعد تولد الفكرة عند الإنسان تأتي الإشارة ثم التصويت (إخراج أصوات معينة) ومن تطور الأصوات تنشأ الحروف والألفاظ (و يختلف النطق حسب الجماعات البشرية وفيزيولوجيتها وبيئتها) وهكذا تتشكل الألفاظ والكلمات : المحسوس أولا ثم صورته في الذهن ثم اللفظ المعبر عنه. في مرحلة لاحقة تتكون العبارات والتعابير من دمج الكلمات والألفاظ لتعبر ليس فقط عن الأسياء بل عن العلاقات التي تربط بينها. الفارابي هنا يستخدم أسلوب برهانيا ليحدد العلاقة بين اللفظ والمعنى ويقرر أسبقية المعنى على اللفظ (مخالف بذلك لمدرسة أهل الكلام الذين يعطون الأسبقية للفظ على المعنى). وبنفس السياق أيضا يقرر أن نظام الألفاظ (اللغة) هي محاولة لمحاكاة نظام الأفكار (في الذهن) وما نظام الأفكار في الذهن إلا محاولة لمحاكاة نظام الطبيعة في الخارج من علاقات بين الأشياء الفيزيائية المحسوسة [5]. إضافة إلى ذلك فقد تقرر نتيجة تحليل الفارابي أن هناك نظامين : نظام للألفاظ يحاول محاكاة ترتيب العلاقة بين المعاني في النفس، ونظام آخر مستقل للمفهومات والمعقولات تحاول محاكاة ترتيب الأشياء الحسية في الخارج الفيزيائي. ومن هنا ضرورة وجود علمين : علوم اللغة أو علم اللسان الذي يعنى بصر ألفاظ اللغة وعلاقاتها مع مدلولاتها ومعانيها. وعلم المنطق الذي يعنى بترتيب العقل للمفاهيم وطرق الاستنتاج السليم للقضايا من البدهيات أي قواعد التفكير السليم.
يلي ذلك حسب ترتيب الفارابي مرحلة جمع اللغة وصون الألفاظ من الدخيل والغريب ثم تقنين اللغة عن طريق وضع القواعد التي تضبط طريقة كتابتها ونطقها (نشأة علوم النحو)، وهكذا تتطور ما يمكن تسميته بالعلوم العامية.
يترافق ذلك مع تطور للعلوم العملية من قياس وتقنية، ومن ثم سيتلو ذلك نشأة العلوم القياسية التي تعرف بالعلوم الطبيعية، هي العلوم بحق ضمن المفهوم الأرسطي الذي يتبناه الفارابي أيضا أي علوم الرياضيات والمنطق ولأسلوب القياسي الاستنتاجي. فتتميز الطرق الاستدلالية : الخطبية والجدلية والسفسطائية والاللهمية (الرياضية) وأخيرا البرهانية ويتضح أن المعرفة اليقينية تنحصر في الطرق البرهانية، وهكذا تتشكل الفلسفة ليليها بعد الذلك نشأة الشريعة أو الدين أو بمصطلح الفارابي الملة فحسب الفاربي : الفلسفة يجب أن تسبق الملة وما الملة (الشريعة) إلا وسائل خطبية للجمهور والعوام لنقل الحقائق التي نتوصل لها عن طريق الفلسفة [2].
لكن في بعض الحالات (و يقصد هنا حالة الأمة الإسلامية) لا تتشكل الفلسفة في مرحلة مبكرة بل يتشكل الدين بشكل مسبق ومن هنا يحصل التعارض بين تأويلات الدين وتاوبلات الفلسفة وواجب الفلاسفة تبيين الحقائق بحيث يبدو ما تقرره الملة ليس إلا مجرد مثالات لما تقرره الفلسفة [6].
دور الثقافة الشيعية

لاقت محاولة الفارابي لتفسير النشوء في الفلسفة اليونانية والتي كانت مختلفة نوعا ما عن فكرة الخلق قبولا وتعاطفا من قبل الصوفية والإسماعيليين الذين تمكنوا من تشكيل كيان سياسي لهم في تونس وقاموا بتأسيس الدولة الفاطميةعام 909 والذي كان معارضا للخلافة السنية في بغداد وفي عام 973 إمتد نفوذ الإسماعيليين إلى القاهرة وقاموا ببناء جامع الأزهر [25].
بدأ الفكر الإسماعيلي بالإقتناع بأن الإمام الشيعي هو بطريقة ما عبارة عن ضل الله في الأرض وكانت هناك قناعة بان الرسول محمد بن عبد الله عهد بالعلم الحقيقي إلى علي بن أبي طالب وسلالته من بعده وتم تسمية هذا العلم المتوارت "النور المحمدي". كان الفكر الإسماعيلي يعتقد إن الفلسفة تركز فقط على الجانب العقلي والمنطقي في الدين ولاتعير اهتماما إلى الجانب الروحي ولهذا نشأ تيار يركز على فهم المعاني الدفينة للقرآن وسمي هذا العلم علم الباطن وبدلا من استعمال العلم والقياسات لفهم العالم الخارجي استعمل الإسماعيليون تلك الوسائل لفهم التفكير الداخلي الباطني للإنسان [26].
قام الإسماعيليون بدمج بعض الأفكار الزردشتية مع الإفلاطونية المحدثة لتوضيح فكرتهم الفلسفية التي كانت عبارة عن فكرة قديمة نوعا ما ومفاده ان الحياة أو الحقيقة أو الأعمال اليومية لها وجهان وجه نراه في الحياة الدنيا ووجه خفي يقع في السماوات العلى وعليه وحسب هذا المفهوم فإن اي صلاة أو دعاء أو زكاة يقوم به الإنسان في هذه الحياة هي في الحقيقة نسخة مشابهة لنفس تلك الفعاليات في السماء العلى مع فرق مهم وهو ان نسخة السماء العلى هي الخالدة وذات ابعاد حقيقية وإن السماء العلى نفسها هي أكثر حقيقية من الحياة الدنيا [27].
من الجدير بالذكر ان فكرة بعدي الحياة الدنيا والسماء العلى كانت فكرة إيرانية قديمة تركها الفرس عندما إعتنقوا الإسلام ولكن الإسماعيليين أعادوها للحياة ودمجوها مع فكرة النشوء اليونانية وتحليل الفارابي القائلة إن الإنسان بالرغم من منشأه على هذه الأرض فإنه إمتداد لسلسلة من أطوار النشوء التي بدأت من المصدر إلى السماء العلى إلى الكواكب الشمس القمر وإن الإنسان له القدرة بأن يزيل اتربة هذه التراكمات من النشوء لكي يرجع إلى الخالق الأولي
كانت السماوات العشر التي تفصل الإنسان عن الله حسب المفهوم الإسماعيلي مرتكزة على الرسول محمد وأئمة الشيعة السبع حسب الإسماعيلية (علي، الحسن، الحسين، علي زين العابدين بن الحسين ،محمد الباقر بن علي ،جعفر الصادق بن محمد، إسماعيل بن جعفر الصادق)، ففي السماء الأولى كان الرسول محمد وفي السماء الثانية علي بن أبي طالب، وبعد الأئمة السبع وأخيرا وفي السماء الأقرب إلى الأرض كانت فاطمة ابنة الرسول محمد [28]. وكان هذا بالطبع مخالفا لفكرة أرسطو وتحليل الفارابي لتلك الفكرة حيث كانت الفلسفة اليونانية تؤمن إن هناك "الأول" ومن هذا الأول نشأ "الثاني"الذي إتصف بالذكاء ونتيجة لقدرة الثاني على استيعاب فكرة الأول نشأ "الثالث" ومن الثالث نشأ "السماء العلى" ومنه نشأت النجوم والكواكب والشمس والقمر ومنه اتى العاشر والأخير الذي كان بمثابة جسر رابط بين الحياة الدنيا والسماء العلى [29]
علم الباطن

تعتبر الباطنية فرقة من فرق الشيعة ويطلق عليه أيضا القرمطية أو القرامطة والإسماعيلية وكانوا يأمنون حسب تعبيرهم ان "لكل ظاهر باطنا والظاهر بمنزلة القشور والباطن بمنزلة اللب المطلوب" ويعتقد ان لفظة الباطنية ظهرت مع ميمون بن ديصان الأحوازي الذي إختاره جعفر الصادق وصيا على حفيده محمد بن إسماعيل [30]
كانت الفكرة الرئيسية لعلم الباطن هو معرفة الأبعاد الخفية للدين وتم التكثيف من استعمال الرموز التي حسب إعتقاد الإسماعيليين أظهرت حقائق عميقة لم يتمكن الحواس اوالمنطق من إدراكها. كانت الوسيلة الرئيسية هي التأويل والذي كان بإعتقادهم سوف يرجع بهم إلى لحظة الوحي بالتالي إلى اللوح المحفوظ [31]. حاول الفيلسوف الفرنسي هينري كوربن (1903 - 1978) توضيح فكرة التأويل حيث كان كوربن مهتما بتاريخ ودور الثقافة الشيعية فقال كوربن ان التأويل يمكن تشبيهه بالتناغم في الموسيقى حيث كان الإسماعيليون يزعمون إنهم قادرون على سماع عدة مستويات عند سماعهم لآية قرآنية وكانوا يحاولون سماع الصدى الفردوسي بالإضافة إلى الكلمات المجردة [32]
طرح المفكر الإسماعيلي أبو يعقوب السجستاني (توفي عام 971) نظريته حول أفضل وسيلة لمعرفة كينونة وماهية الخالق الا وهي وسيلة نفي النفي، على سبيل المثال يبدأ المرء بالقول إن الله ليس كينونة وإن الله ليس بعالم كل شيء ثم يبدأ المرحلة الثانية وهي نفي هذا النفي بقول ان الله ليس ليس كينونة وإن الله ليس ليس بعالم كل شيء. كانت الفكرة الرئيسية من هذا الطرح هو محاولة إظهار ان اللغة الإنسانية غير قادرة على وصف طبيعة الخالق [33]
بعد السجستاني حاول المفكر الإسماعيلي حميد الدين كرماني (توفي عام 1020) يوضح أهمية إسلوب نفي النفي في بعث الطمأنينة الداخلية إذا تم استعمالها بحكمة وإنها ليست عبارة عن خداع عقلي بل محاولة لتنوير الباطن [34]. من الجدير بالذكر ان فلسفة نفي النفي يتم استعمالها بكثافة لحد هذا اليوم وخاصة في مجال البحوث الإحصائية العلمية حيث يبدأ الفرضية عادة بنفي ثم يتم نفي هذا النفي، على سبيل المثال يبدأ باحث ما بدراسة علاقة التدخين بالسرطان فيبدأ من فرضية انه لاعلاقة بين التدخين السرطان وتدريجيا من خلال الأرقام والأحصاءات يتم نفي هذا النفي. كانت لمدرسة الفكر الباطني والفكر الإسماعيلي أعظم الأثر في نشوء حركة إخوان الصفا الفلسفية لاحقا.
إخوان الصفا


تحت تأثير الفكر الإسماعيلي إنبثقت جماعة اخوان الصفاء في البصرة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري وكانت اهتمامات هذه الجماعة متنوعة وتمتد من العلم والرياضيات إلى الفلك السياسة وقاموا بكتابة فلسفتهم عن طريق 52 رسالة مشهورة ذاع صيتها حتى في الأندلس ويعتبر البعض هذه الرسائل بمثابة موسوعة للعلوم الفلسفية، كان الهدف المعلن من هذه الحركة "التظافر للسعي إلى سعادة النفس عن طريق العلوم التي تطهر النفس" للإطلاع على نبذة مختصرة من رسائل إخوان الصفا اقرأ هذا الرابط [35]. من الأسماء المشهورة في هذه الحركة كانت أبو سليمان محمد بن مشير البستي المشهور بالمقدسي، وأبو الحسن علي ابن هارون الزنجاني [36].
تأثرت رسائل إخوان الصفا بالفلسفة اليونانية والفارسية والهندية وكانوا يأخذون من كل مذهب بطرف ولكنهم لم يتأثروا على الإطلاق بفكر الكندي وإشتركت مع فكر الفارابي والإسماعيليين في نقطة الأصل السماوي للأنفس وعودتها إلى الله وكان فكرتهم عن منشأ الكون يبدأ من الله ثم إلى العقل ثم إلى النفس ثم إلى المادة الأولى ثم الأجسام والأفلاك والعناصر والمعادن النبات الحيوان فكان نفس الإنسان من وجهة نظرهم جزءا من النفس الكلية التي بدورها سترجع إلى الله ثانية يوم المعاد. الموت عند إخوان الصفاء يسمى البعث الأصغر، بينما تسمى عودة النفس الكلية إلى الله البعث الأكبر [37]. وكان إخوان الصفا على قناعة إن الهدف المشترك بين الأديان والفلسفات المختلفة هو أن تتشبه النفس بالله بقدر ما يستطيعه الإنسان [38].
كانت كتابات إخوان الصفا ولا تزال مصدر خلاف بين علماء الإسلام وشمل الجدل التسائل حول الإنتماء المذهبي للجماعة فالبعض إعتبرهم من أتباع المدرسة المعتزلية والبعض الآخر إعتبرهم من نتاج المدرسة الباطنية وذهب البعض الآخر إلى حد وصفهم بالإلحاد الزندقة [39] ولكن إخوان الصفا أنفسهم قسموا العضوية في حركتهم إلى 4 مراتب [40]:
مَن يملكون صفاء جوهر نفوسهم وجودة القبول وسرعة التصور. ولا يقل عمر العضو فيها عن خمسة عشر عامًا؛ ويُسمَّوْن بالأبرار والرحماء، وينتمون إلى طبقة أرباب الصنائع.
مَن يملكون الشفقة والرحمة على الأخوان. وأعضاؤها من عمر ثلاثين فما فوق؛ ويُسمَّوْن بالأخيار الفضلاء، وطبقتهم ذوو السياسات.
مَن يملكون القدرة على دفع العناد والخلاف بالرفق واللطف المؤدِّي إلى إصلاحه. ويمثل هؤلاء القوة الناموسية الواردة بعد بلوغ الإنسان الأربعين من العمر، ويُسمَّوْن بالفضلاء الكرام، وهم الملوك والسلاطين.
المرتبة الأعلى هي التسليم وقبول التأييد ومشاهدة الحق عيانًا. وهي قوة الملكية الواردة بعد بلوغ الخمسين من العمر، وهي الممهِّدة للصعود إلى ملكوت السماء؛ وإليها ينتمي الأنبياء [41].

وصلت الفلسفة الإسلامية إلى إحدى قممها على يد ابن سينا (980 - 1037) الذي ولد لعائلة شيعية في إحدى قرى "بخارى" وتأثر منذ صغره بفلسفة الفارابي والإفلاطونية المحدثة [42]. أدرك ابن سينا إن الفلسفة بحاجة إلى التأقلم مع متغيرات الإمبراطورية الإسلامية الذي أصبح فيه الخليفة بعيدا كل البعد عن صفات قائد المدينة الفاضلة التي دعى إليها أفلاطون وإعتبرها الفارابي مطابقة لصفات الرسول محمد. كان ابن سينا مقتنعا ان الرسول محمد هو أرفع شأنا من الفيلسوف لكونه معتمدا على الاتصال المباشر بالمعرفة الإلهية ولكنه وفي نفس الوقت كان معاديا لفكرة الأيمان الأعمى حيث كان ابن سينا متأثرا بفكر أرسطو باستعمال العقل المنطق والأدلة للوصول إلى ماهية الخالق بل إعتبر ابن سينا استعمال هذه الوسائل واجبا على كل مسلم لكي يحرر فكره من الخرافة الأساطير ومن الجدير بالذكر ان ابن سينا لم يكن عابدا متزهدا حيث ان هناك مصادر تشير إلى وفاته وهو في الثامنة والخمسين من العمر لإفراطه في شرب النبيذ [43].
طرح ابن سينا فكرته في الإثبات العقلي على وجود الخالق التي يجب أن تبدأ حسب رأيه بفهم طريقة تفكير الإنسان أولا وأعطى مثال الشجرة لتوضيح فكرته. فالشجرة وحسب مثال ابن سينا تتألف من جذر وجذع واوراق ولحاء وعندما يحاول الإنسان فهم موضوع معين فيجب عليه تقسيم الموضوع إلى عدة أقسام ثانوية ويتوقف عملية التقسيم هذه لحد التوصل إلى جزء غير قابل للقسمة وسوف يساعد هذه الطريقة حسب رأي ابن سينا في الوصول إلى جوهر المسألة التي قد تم تعقيدها لأسباب خارجية [44].
كان ابن سينا موافقا لفكر أرسطو بأن الحركة وإن كانت تبدو عملية لا متناهية فإن مصدرها الثبات وإن هذه الكينونة الثابتة هي التي حولت الثبات إلى حركة وأضاف ابن سينا بان إنعدام المحرك الأولي معناه ان الكون كله عبارة عن فوضى ولكن الكون ليس بفوضى وعليه فإن خلقه من الأساس كانت منظمة ورجع ابن سينا إلى فكرة تبسيط الأشياء إلى أجزاءها الأولية البسيطة لغرض فهمها فقال ان الله فكرة الله هي البساطة نفسها حيث ان الفكرة غير قابلة لتقسيم أو تفريع أكثر [45].
قدم ابن سينا طرحه الفكري عن الخلق والنشوء الذي كان مشابها لفكرة الإفلاطونية المحدثة عن الفضاءات العشرة أو السماوات العشرة المتسلسلة لنشوء الكون التي تفصل الإنسان عن الله وركز على الطبقة الأخيرة أو الجسر الرابط بين الحياة الدنيا والسماء العلى وقال ان هذا الجسر عبارة عن الوحي من جبريل إلى الرسول محمد. في سنواته الأخيرة إنكب ابن سينا على كتابة كتابه المشهور كتاب الإشارات حيث كان هناك في هذا الكتاب توجه واضح وصريح نحو الفلسفة المشرقية وفيه ذكر مصطلح الإشراق وكان لهذا الكتاب أعظم الأثر في نشوء المدرسة الفكرية الإشراقية على يد يحيى السهروردي [46]

بدأ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (1058 - 1111) التعمق في فائدة التحليل المنطقي والعقلي الفلسفة من الأساس في إثبات أو نفي الخالق، كان الغزالي باحثا من الطراز الرفيع حيث تولى وهو في الرابعة والثلاثين من عمره إدارة المدرسة النظامية في بغداد وكان الهدف الرئيسى للوزير السلجوقي نظام الملك من هذا التعيين هو قيام الغزالي بالتصدي للفكر الإسماعيلي [47] لكن طموح الغزالى لم يتوقف عند هذه الرغبة الضيقة للوزير السلجوقي حيث أن بحثه عن اليقين المطلق عن طبيعة الخالق دفعه إلى التعمق في دراسة جميع المذاهب الفكرية والتوجهات الفلسفية وإنتهى به البحث إلى الاستنتاج إن جميع الفلسفات والمدارس الفكرية السابقة قد فشلت في إثبات وجود الخالق لكون فكرة الخالق غير خاضعة للقياس من الأساس وأعلن في كتابه "تهافت الفلاسفة" فشل الفلسفة في إيجاد جواب لطبيعة الخالق وصرح إن الفلسفة يجب أن تبقى مواضيع اهتماماتها في المسائل القابلة للقياس والملاحظة مثل الطب والرياضيات الفلك وإعتبر الغزالي محاولة الفلاسفة في إدراك شيء غير قابل للإدراك بحواس الإنسان منافيا لمفهوم الفلسفة من الأساس [48].
كان لتعمق الغزالى في دراسة التيارات الفكرية والفلسفية السابقة دور سلبي فبدلا من إقترابه نحو اليقين بالخالق زاد إقترابه من الشك وإنتهى به الأمر بالإصابة بمرض الكآبة وترك مهنة التدريس وكان في تلك الفترة من حياته مقتنعا ان الدليل الوحيد للوصول إلى اليقين بشأن وجود الخالق هو ملاقاته وجها لوجه بعد الموت [49]. للخروج من هذه الأزمة بدأ الغزالي تدريجيا يقتنع إن هناك جانبا روحيا غير ملموس في الإنسان لايمكن تجاهله وبغض النظر عن منشأ هذا الجانب فإن هناك فصلا واضحا بين ما أسماه "عالم الشهادة" و"عالم الملكوت" ويقصد به الجزء الظاهر المحسوس والخاضع لقوانين الفيزياء مع الجزء المعنوي الغير الملموس [50].
إستخلص الغزالى إلى فكرة أنه من المستحيل تطبيق قوانين الجزء المرئي من الإنسان لفهم طبيعة الجزء المعنوي وعليه فإن الوسيلة المثلى لفهم الجانب الروحي يجب أن يتم بوسائل غير فيزيائية وإختار الغزالي طريق التصوف للوصول إلى اليقين بوجود الخالق أثناء الحياة بدلا من الإنتظار إلى ما بعد الموت للوصول إلى الحقيقة. يظهر الطابع الصوفي للغزالي جليا في كتابه مشكاة الأنوار من خلال تفسيره للآية 35 من سورة النور والتي تنص على [51] "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" حيث قال الغزالي إن النور المقصود هنا يشير إلى الله والى كل جسم مضيئ آخر مثل المشكاة والنجوم وحتى العقل المستنير لأن ضوء العقل المستنير قادر على عبور حاجز الزمن والفضاء وكان الغزالي يقصد بالعقل المستنير العقل القادر على التخيل والتصور وإدراك إن الجانب الروحي يتطلب نظرة غير حرفية وغير فيزيائية لفهمها [52].
بهذه النظرة ألغى الغزالى أي دور للفلسفة في إثبات أو عدم إثبات وجود الخالق من خلال طرحه الفكري بأنه لايمكن استعمال الفلسفة في الوصول إلى اليقين الذي لايقبل الجدل حول ماهية الله ففكرة الله كانت حسب نظره واقعة خارج نطاق التفكير المنطقي ولكن هذا التصريح الخطير لم تكن نهاية الفلسفة حيث قام ابن رشد من قرطبة بإحياء دور الفلسفة في الوصول إلى معرفة الله حيث إعتبر ابن رشد الفلسفة أعلى مراتب التدين [53].

من المفارقات التأريخية حول ابن رشد (1126 - 1198) هو إختلاف وجهات النظر حوله بين المسلمين المعاصرين له وبين وجهة نظر الغرب له، فقد إعتبره الغرب من أهم الفلاسفة المسلمين على الإطلاق حيث ترجمت أعماله إلى اللاتينية العبرية وأثرت أفكاره بشكل واضح على كتابات على الفلاسفة المسيحيين اليهود ومنهم بالتحديد توماس أكويناس [54] (1225 - 1274) وألبرت الكبير [55] (1206 - 1280) وموسى بن ميمون [56] (1135 - 1204) وأيرنست رينان (1823 - 1892) بينما لم يلق ابن رشد نفس الاهتمام من المعاصرين له حيث فضل الفيلسوفان المعاصران له، يحيى السهروردي ومؤيد الدين العربي إتباع منهج ابن سينا بدلا من منهج ابن رشد [57].
كان ابن رشد متعمقا في الشريعة الإسلامية بحكم منصبه كقاضي إشبيلية وحاول التقريب بين فلسفة أرسطو والعقيدة الإسلامية حيث كان ابن رشد مقتنعا انه لايوجد تناقض على الإطلاق بين الدين الفلسفة وإن كلاهما يبحثان عن نفس الحقيقة ولكن بإسلوبين مختلفين وقام بالرد على كتاب تهافت الفلاسفة للغزالي في كتابه المشهور "تهافت التهافت" وأصر على عكس الغزالي على قدرة الفلسفة بإيصال الإنسان إلى اليقين الذي لايقبل الجدل حول ماهية الله [58].
شدد ابن رشد على نقطة في غاية من الأهمية كانت غائبة عن بال من سبقوه وهي إن الفلسفة وعلم الكلام الصوفية الباطنية وغيرها من التيارات الفكرية تشكل خطرا على الأشخاص الذين ليس لهم القدرة على التفكير الفلسفي وان الشخص الغير المتعمق أو الذي يأخذ بقشرة الفكرة سوف يتعرض إلى صراعات نفسية وفكرية تؤدي به إلى الشك والتشتت بدلا من اليقين والتنور [59].
في محاولة من ابن رشد لتضييق الفجوة بين الدين والفلسفة طرح ابن رشد فكرته حول أفضل وسيلة لتفسير الدين والخالق من وجهة نظر فلسفية فقال إن على الفيلسوف القبول ببعض الأفكار الدينية لكي يصبح فعالا في الوصول إلى طبيعة الخالق ومن هذه الأفكار [60]:
وجود الله
وحدانية الله
كون الله فريدا من نوعه
عدالة الله
الحياة بعد الموت
خلق الله للكون
قام ابن رشد بتوضيح فكرته أكثر قائلا ان القرآن على سبيل المثال قد ذكر ان الله قد خلق الكون ولكنه لم يوضح كيف تم هذا الخلق ومتى تم هذا الخلق وبهذا فإن القرآن قد فتح الباب على مصراعيه للفيلسوف بان يستعمل العقل المنطق للتعمق في هذه النقطة وبهذا إعتبر ابن رشد التحليل الفلسفي لأمور الدين قمة التدين وليس منافيا لمفهوم الدين [61]
العصر الحديث

بعد انتهاء العصر الذهبي للإمبراطورية الإسلامية، يمكننا ان نقول بشكل عام انه قد ساد نوع من الخمول في الحركة الفكرية والفلسفية. سادت في المناطق الإسلامية بين معظم الأوساط الدينية فلسفات أكثر ارتباطا بفلسفة الإشراق (السهروردي ومحي الدين بن عربي) وحكمة الماللهن (الملا صدرا) التي كانت أساسا تشكل الثقافة والعلم للطرق الصوفية التعبدية التي انتشرت بين سائر الناس. ولهذا الحكيم والفيلسوف مدرسة فلسفية وحكمية قائمة بذاتها وهي مدرسة الحكمة الماللهة ومن أهم مميزات هذه المدرسة انها وفقت بين القرآن والعرفان والبرهان.
لكن عودة الاتصال بالغرب بعد بدء الحملات العسكرية الأوروبية على البلدان الإسلامية أعاد من جديد ضرورة التفكير الفلسفي وطرح مفهوم النهضة بين مفكرين كانوا يحاولون الإجابة عن سؤال سبب التخلف.
سؤال التخلف سيسيطر على الساحة الفكرية وسيطرحه بداية بعض رجال الدين مثل : جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وشكيب أرسلان ورفاعة الطهطاوي إضافة لمفكرين أكثر علمانية أهمهم : شبلي شميل، ساطع الحصري. وسيقى هذا السؤال مطروحا بسبب فشل المحاولات القائمة على القومية العربية أو القوميات الدينية بعد الاستقلال في تجربة تحديث البلدان العربية والإسلامية. سيبقى السؤال مطروحا بأساليب مختلفة فمثلا سيؤلف أبو الحسن الندوي كتاب ماذا خسر العالم بتخلف المسلمين ؟.
لكن كل هذه المحاولات يمكن ان نقول أنها كانت تندرج في إطار الفكر عامة والفكر السياسي خاصة أكثر منها محاولات فلسفية عميقة، فأسئلة مثل : ما معنى الوجود وما هي ماهيته ؟ من النادر أن تبحث فيما تعاني أمة ما من مشكلة وجود حقيقة ومشكلة إثبات ذات.
ربما تكون إحدى المحاولات الفلسفية النادرة لمسلم في العصور الحديثة هي تجربة الشاعر المفكر محمد إقبال الذي صاغ معظم فكره تقريبا بشكل قصائد باللغتين الفارسية و الأردية. إضافة لبعض محاضرات في الفكر السياسي الإسلامي، وكتاب فريد من نوعه يدعى تجديد الفكر الإسلامي.
[عدل]محاولات إعادة قراءة التراث
عربيا، منذ منتصف الثمانينات وطوال عقد التسعينات ستشهد الساحة الثقافية محاولات جديدة لحل سؤال النهضة المطروح دائما وأبدا وستأخذ هذه المرة شكلا فلسفيا أكثر عن طريق محاولة إعادة قراءة التراث الإسلامي بغية إيجاد حلول للسؤال العصي عن الحل. قد يرى البعض في هذه المحاولات تجارب لإعطاء الفكر العلماني الغربي جذور تراثية إسلامية وبالتالي إعطاء الفكر الغربي نوعا من المشروعية في الساحة الثقافية الإسلامية، وقد يراه آخرون محاولة لاستجداء حلول حقيقية وليس مجرد تلفيق وذلك من روح الأمة نفسها بحيث تكون النهضة متابعة لتجربتها الحضارية.
إحدى أهم وأوائل هذه التجارب ستكون مشروع عابد الجابري الذي بدأ من اواخر السبعينات في كتاب "نحن والتراث" لكنه سيتكامل في مشروع نقد العقل العربي الذي تألف من أربعة أجزاء : تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي، العقل السياسي العربي، وأخيرا العقل الأخلاقي العربي. بالمجمل سيحاول الجابري أن يعيد تفكيك وتركيب التراث الإسلامي ليعين محددات العقل العربي : في الجزء الأول سيدرس ظروف تشكيل العقل العربي والأنظمة الفكرية التي تشكله، ثم يتابع في الجزء الثاني ليتابع دراسة النظمة الفكرية الثلاث التي حددها في الجزء الأول : البيان والعرفان والبرهان وسيستمر الجابري في تحليل البنى والإشكاليات في هذه الأنظمة المعرفية وصداماتها الفكرية والسياسية متحيزا دوما للنظام البرهاني (و هو بشكل أساسي الفكر الفلسفي اليوناني تحديدا الأرسطي) معتبرا ابن رشد الأبرز في تقديم المشروع البرهاني في الحضارة العربية لكن هذا المشروع البرهاني لم يكتب له النجاح في الأرض الإسلامية لكنه سيتابع تقدمه في الغرب الذين سيتقبلون فكر ابن رشد وهو فكر أرسطي أصيل.
الأهمية الأساسية لمشروع الجابري ستكون في أنه سيكون شرارة تشعل هذه الساحة الفكرية والنقدية في قراءة التراث الفلسفي الإسلامي، وسيتعرض الجابري لردود من كافة الاتجاهات، فالاتجاهات العلمانية سيعتبرون أن الجابري بدأ يميل نحو الإسلاموية، في حين سترد عليه محاولات أخرى بأنه بتبجيله لابن رشد يحاول فقط أن يثبت النظام الأرسطي أي الفكر الغربي.
نقد نقد العقل العربي سيكتبه جورج طرابيشي في دمشق، لكن في المغرب موطن الجابري سيرد عليه طه عبد الرحمن الذي يعتقد أن ابن رشد لم يكن سوى مقلدا لأرسطو وشارحا جيدا لأفكاره وليس له في الإبداع نصيب. محاول طه عبد الرحمن الأساسية ستكون في كتابه تجديد المنهج في قراءة التراث.
ستظهر أيضا دراسة للمرزوقي الفيلسوف التونسي بعنوان إصلاح العقل في الفلسفة العربية وكتاب تجليات الفلسفة العربية: منطق تاريخها من خلال منزلة الكلي : المرزوقي يحاول رسم نموذج يوضح به حركيات الفكر في ظل الثقافة الإسلامية وكيف أثرت على الفكر اليوناني والفلسفة اليونانية. يعتبر المرزوقي أهم ما تم إنجازه في إطار الثقافة العربية الإسلامية هو تحرير مفهوم الكلي من إطار الواقعية إلى إطار الاسمية. وهذا هو ما ساعد لا حقا على تطوير العلوم والمعارف من رياضيات وفلك وميكانيك. فواقعية الكلي في إطار الفلسفة الأفلاطونية أو الأرسطية تجعل نتائج الفلسفة حقائق واقعية لا شك فيها وبالتالي الفلسفة كانت جامدة غير قابلة للتطوير. لكن تمازج تجربة تعقيل العلوم النقلية أي وضعها في إطار قوانين، وتجربة تنقيل العلوم الفلسفية الفكرية اليونانية وترجمتها قد فكك تدريجيا فكرة واقعية الكلي النظرية والعملية : هذا التفكيك سيتم بداية عن طريق نقد سيقوم به الغزالي وابن سينا، لكن تدشين الاسمية سيتم على يدي ابن تيمية وابن خلدون.
هذه الأفكار سترسم صورة مغايرة تماما عن نموذج الجابري الذي يدين الغزالي وابن سينا معتبرا إياهم من أنصار وناشري المنج العرفاني (العقل المستقيل)، كما سيعيد طرح شخصية ابن تيمية كلاعب أساسي في الساحة الفلسفية وهو كثيرا ما كان يعتبر مجرد فقيه حنبلي سلفي.
[عدل]المصادر

مراجع كتب
^ أ ب ت ث محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي
^ أ ب أبو يعرب المرزوقي، تجليات الفلسفة العربية
^ محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي
^ محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي ص 419
^ محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي ص 421



رينيه ديكارت
( 1596 - 1650 )

مقدمـــة :
يُعرف ديكارت على أنه «أبو الفلسفة الحديثة»، وذلك لأن البرنامج الفلسفي الذي وضعه لنفسه والمنهج الذي اتبعه في تحقيق هذا البرنامج قد شكل قطيعة مع فلسفات العصور الوسطى، وأحدث تأثيراً بالغاً في الفلاسفة المحدثين اللاحقين. والغريب أن ديكارت فى عمله الفلسفي الأساسي وهو «تأملات في الفلسفة الأولى» لا يبدو منه أن هدفه فلسفي تماماً، ذلك لأن العنوان الفرعي للكتاب هو «وفيه تتم البرهنة على وجود الله والتمييز بين العقل والجسد». هذا العنوان الفرعي لا يجعل من كتاب التأملات كتاباً فلسفياً بل كتاباً لاهوتياً يثبت صحة الإيمان والعقيدة، الإيمان بإله واحد وبعقيدة البعث والخلود بما أنه يثبت إمكان انفصال الروح عن الجسم وبقائها بدونه. بهذا الشكل يكون كتاب «التأملات» تبريراً للإيمان عن طريق العقل، وبذلك لن يكون مختلفاً عن أي من فلسفات العصور الوسطى التي اتبعت نفس الطريق، بل سيكون مشابهاً لأعمال علماء الكلام المسلمين في الدفاع عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية. والأكثر من ذلك أن ديكارت يهدي كتاب «التأملات» هذا لمدرسة اللاهوت بجامعة السربون. لكن يجب على المرء أن يستوعب جيداً دوافع ديكارت في فلسفته وفي إهدائه الكتاب إلى علماء اللاهوت. لقد كان هدف ديكارت الأساسي الوصول بالعقل إلى الاستقلال في الأمور الميتافيزيقية، وهذا الاستقلال خليق بأن يجعل العقل والتفكير العقلاني مستقلاً عن سلطة الكنيسة. كانت الكنيسة في ذلك الوقت لا تزال تحتكر الإيمان والموضوعات الميتافيزيقية، ومن ثم أراد ديكارت أن يثبت إمكان توصل العقل انطلاقاً من مبادئه الخاصة إلى الإيمان والعقيدة دون الاعتماد على سلطة مسبقة من كتب مقدسة أو رجال دين. وهذا الهدف كان كفيلاً بأن يثير ضده ثورة رجال الدين، ومن ثم كي يحمي ديكارت نفسه أهدى كتابه لهؤلاء أنفسهم منعاً لاحتمال مقابلتهم لكتابه بالرفض.
لم يكن ديكارت يرفض وجود الله أو خلود النفس، بل على العكس، إذ أثبتهما بمنهجه العقلى في «التأملات». وما كان يرفضه ضمناً هو إمكان الوصول إليهما بطرق أخرى غير العقل والبرهان. فحسب منهج ديكارت، فإن أحد أهم قواعده تنص على أنه لن يسلم بأي شئ ما لم يكن واضحاً متميزاً ويتمتع بصحة عقلية عن طريقة البرهان العقلي. ومعنى هذا أن ديكارت يعتقد ضمناً أن سلطة الكتاب المقدس لا تكفي لتقبل الإيمان والعقيدة، إذ هما في حاجة إلى برهان عقلي، وبالتالي تكون الفلسفة أعلى وأهم في إثباتهما. ومن أجل هذا المضمون الثورى لفلسفة ديكارت فقد حرص على إهداء «التأملات» إلى رجال الدين تقرباً منهم واتقاءً لاحتمال معارضته ومواجهة فلسفته.
وعلى الرغم من أن ديكارت يهدف في «التأملات» إلى إثبات وجود الله وخلود النفس، إلا أن ذلك لم يشكل كل أهدافه، إذ كانت أوسع من ذلك بكثير. اعتقد ديكارت منذ تأليفه لكتاب «مقال عن المنهج» أن المعرفة الحقة لا يمكن تأسيسها إلا بالأفكار الواضحة المتمايزة، ولا يمكن الوصول إلى الوضوح والتمايز إلا إذا تخلى المفكر عن كل الأفكار المسبقة، ذلك لأن كل ما يرثه الإنسان من أفكار عن طريق أسلافه أو محيطه الاجتماعي
لا يتوافر فيه الوضوح والتمايز، بل غالباً ما يكون غامضاً بسبب عدم خضوعه لمحاكمة العقل. ولذلك يبدأ ديكارت تأسيسه للمعرفة الحقة بشك منهجي يستطيع به فحص الأفكار المسبقة والوقوف على بداية أولى واضحة بذاتها ويقينية عقلياً تكون ثابتة للمعرفة( ). وهكذا يمارس ديكارت في التأمل الأول شكاً منهجياً، وهو منهجي لأنه لا ينتمي إلى رفض كل المعارف أو التوصل إلى استحالة وجود أساس ثابت لليقين بل إلى التوصل إلى يقين أول يؤسس عليه الصدق في المعرفة. والملاحظ أن اليقين الأول الذي يتوصل إليه ديكارت بعد الشك هو وجود الذات المفكرة
أو الأنا أفكر، وذلك انطلاقاً من الشك نفسه. إذ يذهب إلى أنه ما دام يشك فهو يفكر، وطالما يفكر فهو موجود: «أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود». فعلى الرغم من أن هدف كتاب «التأملات» هو إثبات وجود الله وخلود النفس، إلا أن الهدف الحقيقي لديكارت الوصول إلى يقين أول يسبقهما معاً، وهذا اليقين هو إثبات وجود الذات أو الأنا أفكر، وعن طريقها يتم إثبات وجود الله، من منطلق أن هذا الأنا أفكر لم يكن موجوداً دائماً، وبالتالى فهناك سبب لوجوده، وسبب الوجود يتمثل في الخلق من العدم، وهكذا فإن وجود الأنا حادث ومخلوق وفي حاجة إلى خالق وهو الإله. كما أن في الفكر الإنساني فكرة واضحة متمايزة عن الكمال، وبما أن الإنسان ليس كاملاً فلا يمكن أن يكون هو مصدر فكرة الكمال، وبالتالي يجب أن يكون هناك كائن كامل هو مصدر هذه الفكرة لدى الإنسان وهو الإله. وهكذا يتوصل ديكارت إلى إثبات وجود الله عن طريق وجود الأنا. وهذا هو الجانب الثورى في فلسفة ديكارت، إذ يجعل الأنا هي الأساس والنقطة الأولى التي يبدأ بها لإثبات وجود الله. ومعنى هذا أن وجود الأنا هو اليقين الأول الذي يتمتع بأقصى درجات الصدق والمعقولية، ثم يكون وجود الله تالياً وتابعاً له. وهنا اختلفت فلسفة ديكارت عن فلسفات العصور الوسطى التي كانت تبدأ من وجود العالم منطلقة منه إلى إثبات وجود خالق لهذا العالم، وهو ما يسمى بالدليل الكوزمولوجي. لكن شك ديكارت في وجود العالم ولم يعتقد في إمكان إثبات وجود الله عن طريقه لأن وجود العالم لا يتمتع باليقين والوضوح الذي تتمتع به الأنا أفكر أو الكوجيتو. وعندما وضع ديكارت وجود الأنا باعتباره اليقين الأول الذي يؤسس عليه وجود الإله ذاته كان محدثاً لثورة في الفكر الأوربي، إذ كان بذلك مفتتحاً لعصر يعطى الأولوية للإنسان وللذات الإنسانية ويعلي من شأن الفردية، تلك الأفكار التي لم يكن لها حضور في لاهوت العصور الوسطى والتي غابت فيها الذاتية الإنسانية في أنساق لاهوتية.
حياته وأعماله:
ولد رينيه ديكارت في 31 مارس سنة 1596 في مدينة لاهي بفرنسا، لكن أسرته كانت ترجع في أصلها إلى هولندا. ينتمي ديكارت إلى أسرة من صغار النبلاء، حيث عمل أبوه مستشاراً في برلمان إقليم بريتانيا الفرنسي. وكان جده لأبيه طبيباً، وجده لأمه حاكماً لإقليم بواتيه. وفي سنة 1604 التحق ديكارت بمدرسة لافلشي La Fliche، وهي تنتمي إلى طائفة دينية تسمى باليسوعية، وقد تلقى ديكارت فيها تعليماً فلسفياً راقياً يعد من أرقى الأنواع في أوربا وبدأ فيها ديكارت في تعلم الأدب، ثم الفلسفة وأخيراً الرياضيات والفيزياء. وتخرج ديكارت من الكلية سنة 1612 حاملاً شهادة الليسانس في القانون الديني والمدني من جامعة بواتيه سنة 1616( ).
وعلى عادة النبلاء في ذلك العصر، نصحه أبوه بالالتحاق بالجيش الهولندي، إذ كان هذا الجيش أفضل جيوش أوروبا نظاماً وخبرة، وكان يشكل مدرسة حربية لكل من أراد أن يتعلم فن الحرب. وبالفعل رحل ديكارت إلى هولندا سنة 1618 وتعرف هناك على طبيب هولندي يدعى اسحق بيكمان، وكان متبحراً في العلوم، وشجعه على دراسة الفيزياء والرياضيات وعلى الربط بينهما، وكانا يمارسان معاً طريقة جديدة في البحث تطبق الرياضيات على الميتافيزيقا، وترد الميتافيزيقا إلى الرياضيات، وقد كان لهذه الطريقة أبلغ الأثر في تطور ديكارت الفكري وفي تشكيل فلسفته، إذ أن منهجه ومذهبه الفلسفي لن يختلف كثيراً عن طريقة البحث هذه( ).
غادر ديكارت هولندا سنة 1619 وذهب إلى ألمانيا، وهناك اكتشف الهندسة التحليلية التي اشتهر بها ووضع يده على قواعد منهجه الفلسفي. وفي سنة 1620 بدأ في السفر متنقلاً بين العديد من المدن الأوربية لمدة تسع سنين، وفيها باع أملاكه التي ورثها عن أمه، وعرض عليه أبوه أن يشتري له وظيفة حاكم عسكري فرفض ديكارت وآثر أن يعيش حياة العزلة. وفي سنة 1628 غادر فرنسا إلى هولندا حيث قضى فيها فترة كبيرة من حياته. والذي جعله يفضل هولندا أنها كانت آنذاك من أقوى وأغنى الدول الأوروبية وأكثرها ازدهاراً في العلوم والفنون. وفي سنة 1629 بدأ ديكارت في كتابة رسالته «العالم Le Monde» وفيها يبحث في الطبيعة على أساس النتائج التي توصل إليها كوبرنيقوس وكبلر وجاليليو في النظام الشمسى ودوران الأرض حول الشمس، لكن حدث أن أدانت محكمة التفتيش في روما العالم الإيطالي جاليليو سنة 1633، خوفاً من أن تؤدي آراء جاليليو الجديدة إلى سقوط الاعتقاد القديم بأن الأرض ثابتة في الكون والنجوم والكواكب تدور حولها وعندئذ خشى ديكارت أن يكون مصيره نفس مصير جاليليو، فلم يكمل الرسالة وكاد أن يحرق أوراقها وعزم على
ألا يكتب أي شئ على الإطلاق( ).
لكن سرعان ما أدرك ديكارت أنه لا يمكن أن يتوقف عن الكتابة نهائياً وهو الفيلسوف الذي بدأ صيته ينتشر وعندما أحس أن الناس يتشوقون لمعرفة فلسفته عكف على الكتابة مرة أخرى، وأخرج ثلاث رسائل تدور كلها حول الموضوعات الرياضية والطبيعية وهي عن انكسار الأشعة والأنواء الجوية والهندسة، وقدم لها بمقال صغير وهو «المقال عن المنهج» سنة 1636 وبلغ حد خوف ديكارت أن طبع الكتاب دون أن يكتب اسمه على الغلاف. وقرر ديكارت أن يضع مذهباً للفلسفة ويطبقه على الميتافيزيقا فأخرج سنة 1641 كتاب «التأملات في الفلسفة الأولى» الذي أهداه إلى الأميرة إليزابيث البلاتينية التي راسلها كثيراً وأخذ يشرح لها فلسفته ويناقشها في أمور الأخلاق والسياسة. وعندما ذاعت شهرته وضع له ملك فرنسا راتباً سنوياً يقدر بثلاثة آلاف جنيه سنة 1647 لكنه لم يتلق منه شيئاً إذ آثر حياة العزلة. وفي سنة 1648تعرف على ملكة السويد التي ناقشته طويلاً في فلسفته عبر سلسلة من الرسائل، وأصرت على دعوته للسويد ليكون عوناً لها في إدارة الحكم وشئون البلاد كمستشار، وعندما قبل الدعوة سافر إلى استوكهلم عاصمة السويد سنة 1649. وكانت الملكة تتردد عليه طويلاً لمناقشته في فلسفته، لكن الطقس البارد للسويد لم يكن مناسباً لصحته، فأصيب بالتهاب رئوي، فرفض نصائح الأطباء وآثر أن يعالج نفسه بنفسه، وعندما اشتد عليه المرض توفى في 11 فبراير سنة 1650.
أولاً - قواعد المنهج الديكارتي:
إن دارس فلسفة ديكارت ليندهش عندما يعلم أن تخصص ديكارت الأساسي لم يكن الفلسفة بل الرياضيات والجبر والبصريات. فالمطلع على مجمل أعماله يلاحظ أنها تشكل عدة مجلدات تعد ست مجلدات من القطع الكبير في بعض الطبعات، تنصب أساساً على الموضوعات الرياضية والهندسية ولا تحتل أعماله الفلسفية التي اشتهر بها سوى جزء ضئيل
لا يكاد يصل إلى نصف مجلد. لقد كان ديكارت رياضياً في الأساس، ولم يكن فيلسوفاً إلا في أوقات فراغه من دراساته الرياضية. لكن هذا الجزء الفلسفي الصغير نسبياً من مؤلفاته هو السبب في شهرته كفيلسوف وهو الذي صنع منه مؤسس الفلسفة الحديثة. ومعنى هذا أن الجزء الفلسفي من أعماله يعد ملحقاً على أعماله الرياضية الأساسية، أو هامش فلسفي على متن رياضي هندسي. ويرجع السبب في ذلك إلى أن ديكارت الذي شهد درجة النجاح المذهل الذي حققته الرياضيات في عصره من دقة المنهج ويقين النتائج التام أراد للفلسفة أن تصل إلى نفس الدقة المنهجية واليقين المطلق الذي وصلته الرياضيات في عصره وعلى يديه هو شخصياً. ويتمثل تأثر ديكارت بالمنهج الرياضي في فلسفته في سعيه نحو الوصول إلى نقطة أولى يقينية واضحة بذاتها يؤسس عليها فلسفته كلها، وهي وجود الأنا أفكر. فهذا الأنا أفكر كان بالنسبة له المبدأ الأول الشبيه بمبادئ الرياضيات التي تؤسس لكل المبرهنات الرياضية التالية عليها. كما يسير ديكارت بالطريقة الاستنباطية السائدة في الرياضيات في مذهبه الفلسفي حيث يستنبط وجود الإله والعالم وخلود النفس من وجود الأنا أفكر.
والحقيقة أن محاولة الوصول إلى اليقين في الموضوعات العلمية والفيزيائية سهل يسير باتباع الطريقة الرياضية، لكنه ليس كذلك بالنسبة للموضوعات الميتافيزيقية. فلا يمكن التعامل مباشرة مع موضوعات مثل وجود الإله وخلود النفس بالطريقة الرياضية. وقد كان ديكارت صادقاً في ذلك مع نفسه، إذ أنه لم يبدأ دراسة هذه الموضوعات مباشرة، بل وضعها كلها موضع الشك وتوقف عن الحكم عليها منذ البداية. يقول ديكارت في التأمل الأول: «وإذا لم يكن في مقدوري الوصول إلى معرفة أي حقيقة، فليكن أن أفعل ما هو في مقدوري على الأقل، أي التوقف عن كل حكم، وأتجنب أن أعطي أي مصداقية لأي شئ باطل»( ).
وعندما فكر ديكارت في وضع منهج في الفلسفة أقامه على أساس أسلوب التفكير الرياضي والهندسي. وهذا هو المعنى الحقيقي لقواعد المنهج الأربعة التي وضعها في كتابه «مقال عن المنهج». تنص القاعدة الأولى على «ألا أقبل شيئاً على أنه حق ما لم أعرف يقيناً أنه كذلك، بمعنى أن أتجنب بعناية التهور، و السبق إلى الحكم قبل النظر، وألا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل أمام عقلي في جلاء وتميز، بحيث لا يكون لدي أي مجال لوضعه موضع الشك»( ) وتسمى هذ القاعدة بقاعدة اليقين، لأنها تدخل إلى يقين بديهي بسيط لا يتطرق إليه شك. ويتضح ارتباط هذه القاعدة بالهندسة الرياضية من الأمثال التي يضربها ديكارت عليها، فاليقين عنده هو القول بأن المثلث هو الشكل المكون من ثلاث أضلاع، وأن المساويان لشئ ثالث متساويان ... ولا يهدف ديكارت من هذه القاعدة تأسيس الرياضيات أو الهندسة على أسس يقينية، ذلك لأنهما مؤسسان على اليقين بالفعل، بل يهدف استعارة هذا اليقين الرياضي والهندسي لتطبيقه على موضوعات الفلسفة. وعندما نطبق هذه القاعدة على الفلسفة تبدأ باعتبارها شكاً منهجياً، ذلك لأنها تنص على «ألا أقبل شيئاً على أنه حق ما لم أكن على يقين أنه كذلك»، فنص القاعدة يبدأ بالسلب، أي بألا يقبل شيئاً، وهذا هو الشك الذي هو الخطوة الأولى في المنهج الفلسفي عند ديكارت. ومعنى هذا أن قواعد المنهج عامة وكلية، وعندما تتم مناسبتها كموضوعات الفلسفة لوضع منهج خاص بالفلسفة تنقسم القاعدة الأولى إلى خطوتين، الخطوة الأولى هي الشك في كل شئ شكاً منهجياً للوصول منها إلى يقين أول. فبعد أن يشك ديكارت في وجود العالم، ينطلق من هذا الشك نفسه ليتوصل إلى أول يقين وهو أن الشك يتضمن التفكير، والشخص الذي يفكر يجب أن يكون موجوداً: أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود.
وتنص القاعدة الثانية على «أن أقسم كل واحدة من المعضلات التي سأختبرها إلى أجزاء على قدر المستطاع، على قدر ما تدعو الحاجة إلى حلها على ذلك» وتسمى هذه القاعدة بقاعدة التحليل. وتقول القاعدة الثالثة: «أن أُسِّير أفكاري بنظام، بادئاً بأبسط الأمور وأسهلها معرفة، كي أتدرج قليلاً قليلاً حتى أصل إلى معرف أكثرا ترتيباً، بل وأن أفرض ترتيباً بين الأمور التي لا يسبق بعضها الآخر بالطبع» وتسمى هذه القاعدة الثالثة بقاعدة التركيب. أما القاعدة الرابعة والأخيرة فهي تنص على «أن أجري في كل الأحوال الإحصاءات والمراجعات الشاملة ما يجعلني على ثقة من أننى
لم أغفل شيئاً»، وتسمى هذه القاعدة بالاستقراء التام.
نرى بذلك كيف أن قواعد المنهج الأربعة من يقين وتحليل وتركيب ومراجعة أو استقراء هي نفسها طريقة التفكير المتبعة في الرياضيات والهندسة، وهو يحاول تطبيقها على موضوعات الفلسفة لأنه أراد الوصول في الفلسفة إلى نفس درجة الوضوح واليقين الذي وصلت إليه الرياضيات والهندسة. ورغماً عن كل ذلك فإن التساؤل الذي يطرح نفسه الآن هو: هل محاولة ديكارت تطبيق طريقة التفكير الرياضي والهندسي مبررة ومشروعة في الفلسفة؟ وهل يمكن استعارة منهج علم ما لتطبيقه على علم آخر يختلف عنه في المادة والموضوعات والقضايا؟ إن الرياضيات والفلسفة شيئان على طرفي النقيض، فما هو مبرر ديكارت لتطبيقه منهج الرياضيات على الفلسفة؟
الحقيقة أن ديكارت لا يطبق المنهج الرياضي نفسه على الفلسفة بل يطبق طريقة التفكير في الرياضيات، فإذا كان يستعير المنهج الرياضي فهو لاتبع طريقة البدء بالبديهيات والمسلمات والفروض ولانطلق منها إلى مبرهنات ثم قضايا تلزم عنها ضرورةً، ولو كان قد فعل ذلك لرأينا مؤلفاته الفلسفية تأخذ شكل الاستنباط والبرهان الرياضي. لكن لا تظهر طريقة الاستنباط الرياضي في فلسفة ديكارت، وكل ما يستعيره من الرياضيات هو طريقة التفكير المتبعة فيها وحسب. والملاحظ أن طريقة البرهان الرياضي الهندسي والتي لم يتبعها ديكارت قد اتبعها من بعده سبينوزا بجذافيرها كما سوف نرى في الفصل التالي الخاص بفلسفة سبينوزا. وبذلك يكون سبينوزا قد سار خطوة أبعد من ديكارت، ذلك لأن ديكارت اتبع مجرد طريقة التفكير في الرياضيات والتي تتمثل في القواعد الأربعة: اليقين أو الوضوح، والتحليل والتركيب والاستقراء التام، وما رفضه ديكارت وهو تطبيق المنهج الهندسي من تعريفات ومصادرات ثم مبرهنات وقضايا مستنبطة منها قد تبناه سبينوزا نجد بحذافيره كما سوف نرى. وهكذا يكون سبينوزا أكثر جرأة وثورية من ديكارت الذي وقف عند حدود التفكير الرياضي فقط ولم يصل إلى درجة تطبيق المنهج الرياضي الهندسي نفسه في الفلسفة.
ثانياً - الميتافيزيقا:
نظرة عامة على كتاب «التأملات في الفلسفة الأولى
ينقسم كتاب «التأملات في الفلسفة الأولى» إلى ستة تأملات. في التأمل الأول يطبق ديكارت نظرته المنهجية الأولى وهي الشك، ويتناول فيه الأشياء التي يجب أن توضع موضع الشك، ومبرراته لهذا الشك، ويصل إلى الشك في كل شئ( ). وفي التأمل الثاني يصل إلى أول يقين واضح بذاته يقدم نفسه بعد خطوة الشك وهو وجود الفكر أو العقل الإنساني، ويميزه عن الجسد ويذهب إلى أن معرفته أيسر وأوضح من معرفة الجسد. وبعد أن يثبت ديكارت وجود الفكر ينتقل في التأمل الثالث إلى إثبات وجود الإله. ويقدم ثلاثة براهين على وجوده( ). وفي التأمل الرابع يميز بين الصدق والكذب
أو الوضوح وعدم الوضوح، وفيه يشرح بمزيد من التفصيل بعض موضوعات التأمل الأول والثاني حول العلاقة بين النفس والجسد وحول الإله. وفي التأمل الخامس يتناول ماهية الأشياء المادية، ويقر بأن ماهيتها الامتداد، وأن ماهية الإله الروح والفكر، وتظهر في هذا التأمل ثنائية ديكارت الشهيرة بين الفكر والامتداد وأنهما جوهرين متمايزين. وفي التأمل السادس يتناول وجود الأشياء المادية ويثبت أنها زائلة، ويميز بين النفس والجسد، ويثبت أن الجسد فاني والنفس خالدة( ). والحقيقة أن هذه التأملات الستة متداخلة، فالشك المنهجي الذي يتناوله في التأمل الأول يعاود الظهور في كل تأمل تالي، إذ يستخدمه في التمييز بين النفس والجسد والجوهر الفكري والجوهر الممتد، على أساس شكه في كمال الجسد وفي الوجود الحقيقي للأشياء الممتدة. وإثبات وجود الله الذي يظهر في التأمل الثالث يعاود الظهور في التأمل الخامس عندما يشرح ويفسر طبيعة الإله الروحية والفكرية. وثنائياته الشهيرة بين الفكر والامتداد والنفس والجسد تتكرر عبر كل التأملات. ومن ثم نستطيع تناول فلسفة ديكارت في كتاب التأملات بإقامة ترتيب وتنسيق بين كل هذه الموضوعات الجذرية على التأملات الستة، فنبدأ بالخطوة الأولى وهي الشك المنهجي، ثم نتناول تمييزه بين النفس والجسد والفكر والامتداد موضحين بذلك اليقين الأول وهو إثبات وجود الذات المفكرة ثم نتناول كل ما قاله عن الإله وإثبات وجوده وطبيعته.
الشك المنهجي:
وهو منهجي لأن ديكارت لا يستخدمه إلا كوسيلة للوصول إلى يقين أول واضح بذاته، ولا يأخذ الشك موقفاً نهائيا له. يقول ديكارت: «يجب النظر إلى كل ما يمكن أن يوضع موضع الشك على أنه زائف»( ).
ولا يقصد ديكارت بذلك الحكم بزيف كل شئ، أو بزيف كل ما يوضع محل الشك، بل يقصد أنه لن يقبل بأي شئ على أنه حقيقى ما لم يخضع لامتحان الشك، الذي يستطيع به الوصول إلى شئ يقيني عن طريق برهان عقلي. وهو يذهب إلى أننا سوف نتمكن من التأكد من صحة ويقين أشياء كثيرة ومنها العلوم بعد أن نمارس خطوة الشك، وليس ذلك إلا لأننا تمكنا من تأسيسها على أسس من اليقين والوضوح العقلي. ولذلك فهو عندما يضع موضع الشك كل العلوم بما فيها الرياضية والهندسية فليس ذلك
إلا بغرض تأسيسها على أسس يقينية واضحة. والحقيقة أنه يقوم بذلك بالفعل ابتداء من التأمل الرابع، حيث يثبت يقين العلم الطبيعي من منطلق أنه في العقل فكرة واضحة ومتمايزة ويقينية عن الامتداد الذي هو جوهر العالم الطبيعي.
لكن يضع ديكارت أشياءً أخرى كثيرة محل الشك وتسقط في هذا الاختبار وبالتالي يستبعدها تماماً لأنها لم تصل إلى درجة اليقين والوضوح والتمايز الذي يبتغيه. ومن هذه الأشياء كل ما تعلمناه سواء من الحواس
أو من خلالها، أي أنه يرفض كل ما تأتى به الحواس من إدراكات ويرفض الإدراك الحسي نفسه كأداة معرفية وهذا يتضمن كل شئ نعرفه عن العالم الخارجي وكذلك عن أنفسنا باعتبارنا أجساداً. وهو يرفض شهادة الحواس لأنها دائماً ما تخطئ، ودائماً ما تكون الحواس عرضة للأوهام أو الاعتقادات الخاطئة، ويذهب ديكارت في ذلك إلى أنه «من الحكمة ألا نثق في الذى خدعنا ولو لمرة واحدة»( ). فإذا ثبت أن الحواس لم تكن محل ثقة في أحيان فكيف لنا أن نثق بها في كل الأحيان؟ وهناك سبب آخر يقدمه ديكارت لعدم الثقة في الحواس، وهو أنه لو لم نكتشف أننا ننخدع بالحواس ونسلم بهذا فما أدرانا أننا لا نحلم؟ ذلك لأن المرء في الحلم يشاهد أشياء كأنه يراها على الحقيقة في حين أنها ليست كذلك، وبالتالي فمن الممكن أن يكون كل ما نراه ونحس به حلم كبير والحالم غالباً ما لا يعلم أنه يحلم وبالتالي فمن الممكن أن نكون في حلم ونحن لا نعلم ذلك.
ثم يأتي ديكارت بعد ذلك إلى تناول حقائق الحساب والهندسة ويذهب إلى أننا يجب أن ننحيها جانباً على الرغم مما هو فيها من وضوح وتمايز، حتى أنه الحقيقة القائلة أن اثنين زائد ثلاثة تساوي خمسة وأن المربع هو ما له أربع أضلاع ليست محمية من الشك، فمن الممكن أن يكون هناك شيطان ماكر هو الذي أوحى لي بهذه الأشياء وأوهمني أنها حقائق وهي ليست كذلك، وينتهي ديكارت إلى القول بأنه «ليس هناك أي شئ كنت أعتقده في السابق أنه حقيقي لا يمكن أن أضعه موضع الشك.. وذلك بناء على أسباب قوية ومعتبرة»( ). والحقيقة أن ديكارت الذي شك في حقائق الحساب والهندسة في التأمل الأول على أساس افتراض الشيطان الماكر لن يعود إلى إثباتهما إلا في التأمل الرابع عندما يثبت أن الإله الرحيم العادل لن يتركه يخضع لسلطة هذا الشيطان ولن يجعله ينخدع ويثق في أشياء باطلة وذلك بعد أن يثبت وجود الإله في التأمل الثالث.
اليقين الأول - إثبات وجود الذات:
وهذا هو موضوع التأمل الثاني، وفيه يبدأ ديكارت من النقطة التي انتهى عندها في التأمل الأول، قائلاً: «سأستمر بتنحية كل ما فيه قليل من الشك.. حتى أصل إلى شئ يقيني»( ). ما هو هذا الشئ اليقيني الذي يتوصل إليه ديكارت بعد الشك؟ يذهب ديكارت إلى أنه حتى ولو كان افتراض وجود شيطان ماكر صحيحاً، وحتى لو كان هذا الشيطان الماكر يخدعه بأن يصور له وجود عالم لا وجود له، فإن هذا الشيطان الماكر
لا يمكن أن يخدعه في وجوده ذاته، فلا يمكن أن يصور له أنه موجود في حين أنه ليس موجوداً. وبذلك يتوصل ديكارت إلى أول يقين وهو وجود الذات، ويقول أنه يشعر بوجوده وبهويته وبالتالي فهو موجود. ويستخدم ديكارت حجة شبيهة في «مبادئ الفلسفة» إذ يقول: «لا يمكننا الشك في وجودها أثناء عملية الشك»، ذلك لأن الكائن الذي يشك يجب أن يكون موجوداً في البداية، «ذلك لأن من التناقض الاعتقاد في أن الذي يفكر
لا يوجد أثناء التفكير»، فالتفكير في حد ذاته دليل على وجود الذات التي تفكر، «هذا الاستنتاج القائل (أنا أفكر، إذن أنا موجود Cogito, erg osum) هو أول شئ يقيني على الإطلاق»( ).
والحقيقة أن ديكارت ينطلق إلى تأكيد هذه النتيجة على أساس العلاقة التقليدية بين الجوهر والأحوال، أو الموضوع والمحمول، فحسب هذه العلاقة التقليدية لا يمكن أن تكون هناك أحوال دون جوهر تحمل عليه،
ولا يمكن أن يكون هناك محمول، بالمعنى المنطقي بدون موضوع، ولا يمكن أن يكون هناك فعل دون قائم بهذا الفعل( ). والتفكير فعل يجب أن يكون له فاعل أو محل يحدث فيه أو شئ يقوم به وهو الذات المفكرة. وهكذا نرى أن الثورة الفلسفية التي أتى بها ديكارت تكمن خلفها بعض الاتجاهات التقليدية القديمة في الفلسفة. هذا بالإضافة إلى أن الانطلاق من الفكر إلى الوجود، أي من واقعة حضور شئ ما في الفكر إلى القطع بوجوده الواقعي، مثلما سيفعل ديكارت مع فكرة الإله الكامل، هو أيضاً اعتقاد فلسفي تقليدي موغل في القدم يصل إلى فلاسفة ما قبل سقراط وعلى رأسهم بارمنيدس.
ويتساءل ديكارت بعد ذلك عن طبيعة وجود هذه الذات التي اكتشف وجودها اليقيني والواضح، ويذهب إلى أنه يدرك نفسه باعتباره جسماً، أي ممتلكاً لإحساسات معينة ورغبات ومشاعر. وعلى الرغم من أنه يمكن الشك في الأشياء الحسية، إذ يمكن أن تكون مجرد أوهام، إلا أنه
لا يمكن الشك في أن المرء حاصل على وعي بالإحساسات، وهذا الوعي في حد ذاته موجود وحاضر ولا يمكن أن يكون وهماً. ويتوصل ديكارت من ذلك إلى أن الوعي بالجسد نفسه يأتي من الفكر، ذلك لأن الإحساس والرغبة والمشاعر كلها عناصر فكرية يدركها المرء بفهمه وعقله، وينتهي ديكارت إلى القول بأن الذات توجد باعتبارها شيئاً مفكراً( )، أي فكر خالص يعد هو نفسه أساس الوعي بالحالات الجسدية. لكن يقف ديكارت طويلاً على مفهوم آخر مرتبط بالجسد، وبكل الأشياء الجسمية، ويتساءل: هل أمتلك وعياً بذاتي بفضل امتلاكي لجسد ممتد، أي ذي أبعاد تشغل حيزاً من الفراغ؟ ويجيب بالنفي، ذلك لأن إدراك الشئ الممتد، بما فيه الجسم الإنساني لا يعتمد على الحواس بل على الفكر. ويضرب مثالاً على ذلك بقطعة من الشمع. فهذه القطعة لها شكل معين ولون وملمس، وعندما تتعرض للحرارة تذوب ويتغير شكلها وملمسها ولونها، وليس معنى هذا أنها اختفت أو كفت عن الوجود بل يظل الفكر يعرف أنها باقية. كيف عرف الفكر أنها باقية على الرغم من تغيرها؟ يعرف ذلك من كونها
لا تزال شيئاً ممتداً. ومعنى هذا أنه لا الشكل أو اللون أو الملمس قادر على إبقاء هوية شئ ثابتة في الفكر، والامتداد وحده هو القادر على ذلك. هذا الامتداد ليس شيئاً تتلقاه الحواس مثل اللون والملمس والرائحة بل هو شئ يدرك بالفكر وحده( ). ومعنى هذا أن الفكر لا يدرك ماهية المادة من الإحساسات التي يتلقاها منها بل من فكرة الامتداد التي يدركها الفكر مباشرة على أنها ماهية كل ما هو جسمي بما فيه الجسم الإنساني.
التمييز بين الفكر والامتداد، وبين النفس والجسم:
على أساس نظريته في الأفكار الواضحة والمتمايزة، يذهب ديكارت إلى أن ما يدركه العقل بوضوح وتمايز يتمتع بحقيقة وواقعاً موضوعياً يفوق ما يدركه العقل غامضاً ومختلطاً. وعندما يبحث في أفكاره عن المادة والأجسام المادية يدرك أن أفكاره عنها ليست واضحة، ذلك لأن مصدر هذه الأفكار الحواس والإدراك الحسي وهي غالباً ما تخطئ في المعرفة وتتعرض للزيف والأوهام. ونظراً لأن ديكارت يشك في قدرة الإدراك الحسي على إمداده بمعرفة واضحة يقينية فهو أيضاً يشك في إمكان الحصول على أفكار واضحة عن موضوعات هذا الإدراك الحسي مثل المادة والجسد( ). فموضوعات الإدراك الحسي دائماً ما تكون مختلفة بطبيعتها، فهي دائمة التغير والتحول، مثل مثال قطعة الشمع الذي يستخدمه والذي شرحناه فيما سبق. وينتهي ديكارت إلى القول بأن معرفة الفكر أيسر وأوضح من معرفة المادة، ومعرفة النفس أيسر وأوضح من معرفة الجسد، ذلك لأنه من اليسير على الإنسان ملاحظة ما يدور في عقله من عمليات فكرية، فالفكر هو النشاط الأساسي للإنسان، وما الجسد سوى ملحق بالعقل والفكر، كما أن الجسد نفسه يعرف بوضوح ويقين عن طريق الفكر ذاته، أما إذا استعملنا الجسد لمعرفة الجسد فسوف نخطئ ونقع في الأوهام، مثل استخدامنا للإدراك الحسي لمعرفة أجسادنا. كل ما نعرفه عن الجسد هو آثاره العقلية، أي ما يثار في العقل من إحساسات وانفعالات. وبالتالي فالعقل هو الذي يعرف الجسد، ومن هنا فإنه له الأولوية على الجسد.
ويؤسس ديكارت تمييزه بين النفس والجسد على أساس نظريته القائلة أن ما يدركه العقل متمايزاً أو منفصلاً عن الآخر يوجد على الحقيقة متمايزاً ومنفصلاً. وهو يستطيع أن يفكر في النفس في استقلال عن الجسد، وبالتالي فهما في الحقيقة منفصلان( ). كما يذهب ديكارت إلى أن في الوجود جوهرين منفصلين ومتمايزين هما الفكر والامتداد، والفكر هو جوهر النفس، والامتداد جوهر الجسد، وعلى هذا الأساس يكونا منفصلين نظراً لانفصال وتمايز جوهري الفكر والامتداد. لكن الإنسان في النهاية يمثل اتحاداً بين النفس والجسد، وفي نفس الوقت فهذا الاتحاد تظهر فيه النفس والجسد متمايزان ومنفصلان، والدليل على ذلك ما يدركه الإنسان بوضوح عن انفصالهما. ولا يميل ديكارت إلى الرأي القائل أن الاتحاد بين النفس والجسد يصنع موجوداً جديداً هو الإنسان نفسه، بل يصر على أن هذا الاتحاد ما هو إلا تلازم جوهرين من طبيعتين مختلفتين تماماً. ويثبت ديكارت رأيه هذا على أساس معادلة حسابية بسيطة وهي 1 + 1 = 2 فالنفس زائدة الجسد يساويان اثنين نفساً وجسداً. ولا يصرح ديكارت بهذه المعادلة الحسابية بل هي متضمنة في تحليلاته. كان يمكن لديكارت أن يلجأ إلى معادلة حسابية أخرى وهي 1 × 1 = 1، بمعنى أنه كان يمكنه النظر إلى اتحاد النفس والجسد على أنهما عملية ضرب لا عملية إضافة. لو قام ديكارت بهذه المعادلة لأدرك أن اتحاد النفس بالجسد سوف يصنع موجوداً مختلفاً عنهما، لا هو بنفس فقط ولا هو بجسد فقط، بل هو كائن جديد ليس في العالم مثله وهو الكائن الإنساني، وكان يمكنه أيضاً أن ينظر إلى اتحاد النفس والجسد على أنه شبيه بامتزاج العناصر الكيميائية لصنع عنصر جديد لكنه لم يستطع أن يجري تلك المعادلة أو هذا التشبيه لأنه يعتقد منذ البداية بتمايز واختلاف الفكر والامتداد وأنهما لا يمكن أن يمتزجا لصنع وجود جديد هو الوجود الإنساني. ومن أجل ذلك اعتقد ديكارت أن اتحاد هذين الجوهرين المختلفين أشد ا لاختلاف في الكائن الإنساني ليس
إلا فعلاً للإرادة الإلهية ونتيجة لقرار إلهي بأن يوجد الإنسان الذي هو فكر ونفس في الأساس في جسد معين في هذا العالم( ).
وعلى عكس كثير من الفلاسفة المحدثين، فإن ديكارت لا ينتهي باختزال الجسم إلى العقل، أو العقل إلى الجسم، بل يؤكد على أن لدينا عقلاً وجسماً في نفس الوقت، وأن الاثنين مختلفان عن بعضهما تماماً، لكنهما في نفس الوقت في اتحاد تام. ويذهب ديكارت إلى أن هذا الاتحاد ليس تشاركاً بين متساويين، ذلك لأنه كما يصر على حقيقة الجسم ولا يختزله إلى العقل، فإنه كذلك يقطع بأن الجسم هو مجرد شئ امتلكه، في حين أن العقل
أو النفس هو شئ أكونه، أي هو ما يشكل هويته الحقيقية، بمعنى أنني عقل
أو نفس في الأساس وبالدرجة الأولى، ولهذا العقل أو لهذه النفس جسد تمتلكه. والحقيقة أن ديكارت يقع في تناقض خطير في نظريته حول ثنائية العقل والجسد، فحسب منطق تفكيره الذي يعتمد على النظرية التقليدية في العلاقة بين الجوهر والأحوال، والموضوع والمحمول، والتي يقول بحسبها أن التفكير نشاط أو فعل في حاجة إلى فاعل أو جوهر يقوم به وهو النفس( )، فإن رأيه هذا غير مبرر ومتناقض، ذلك لأنه من الممكن القول بأن التفكير فعل ذهني لفاعل أو حامل مادي هو الجسم، وأن العقل أو النفس ذاتها
ما هي إلا صفة أو حال للجسم. كل ما فعله ديكارت أنه ألحق النشاط الفكري بجوهر مفكر هو النفس، في حين أنه كان من الممكن أن يلحقه بالجسم دون أي تناقض، فمن المفترض أن يكون الجوهر والقوام مادي ويكون الحال أو الفعل فكري أو روحي، والحقيقة أن سبينوزا سوف يفضل هذا الخيار، وهو إلحاق الفكر بالجسم وليس العكس كما ذهب ديكارت.
ويبني ديكارت افتراضه بأولوية النفس على الجسم على افتراض أن الشئ المفكر يجب أن يكون حائزاً على جوهر مفكر وهو العقل أو النفس، وأن الشئ الممتد يجب أن يرجع إلى جوهر مادي، فالفكر في حاجة إلى عقل كي يقوم به، والامتداد في حاجة إلى جسم مادي كي يقوم به، وهذه هي الثنائية الديكارتية الشهيرة في أعلى صورها. لم يكن ديكارت ليتصور إمكان وجود نشاط فكري في جوهر مادي أو وجود صفة الامتداد في جوهر روحي أو عقلي خالص، وقد كانت هذه الاعتقادات المسبقة هي الميدان الأفلاطوني الذي استمر متخفياً في فلسفة ديكارت، ومن هنا لا تكون فلسفته ثورية تماماً كما اعتقد الكثيرون بل تقليدية للغاية، حتى وإن كانت التصورات الفلسفية التقليدية غير واضحة في مذهبه للوهلة الأولى. وكدليل على أن في فلسفة ديكارت عناصر فلسفية تقليدية أن معظم الفلسفات الحديثة التالية له سوف تنقد هذه العناصر التقليدية وترفضها، وأهمها فلسفة سبينوزا التي سوف تنظر إلى الفكر الامتداد على أنهما صفتين لجوهر واحد، وإلى النفس والجسم على أنهما شئ واحد ولا يمكن تصور أحدهما بدون الآخر، وجون لوك الذي سوف يرفض أولوية الفكر على الامتداد وينقد نظرية ديكارت في الأفكار الفطرية، وديفيد هيوم وإمانويل كانط اللذان سوف يرفضان استنتاج الوجود من الفكر وحده. لكن هذا الاستنتاج هو الذي تمسك به ديكارت في كل مؤلفاته وأصر عليه، وأقام عليه تمييزه بين الفكر والامتداد، والنفس والجسم، من منطلق أن
ما يمكن التفكير فيه بمعزل عن الآخر هو في حقيقته متمايز ومختلف عن الآخر، والفكر يمكن التفكير فيه بمعزل عن الامتداد، ويمكن التفكير في النفس بمعزل عن الجسم، وبالتالي فهما متمايزان على الحقيقة، ويقول في ذلك «يكفي أن أكون قادراً على إدراك شئ ما بمعزل عن الآخر كي أكون على يقين أن الواحد منهما مختلف عن الآخر»( ). إن ديكارت بذلك يعتقد أنه إذا كان من الممكن التفكير في جوهرين منفصلين ومتمايزين هما الفكر والامتداد، فإن هذا يكفي لاعتبارهما منفصلين في الواقع. هذا الأسلوب في التفكير الذي يتوصل إلى الوجود الحقيقي من خلال الفكر وحده هو ما ثارعليه لوك وهيوم وكانط. ومعنى هذا أن اللقب الذي حازه ديكارت «أبو الفلسفة الحديثة» في حاجة إلى مراجعة وإعادة نظر، ذلك لأن معظم الفلاسفة المحدثين قد بنوا فلسفاتهم عن طريق معارضته ونقد أفكاره الأساسية لا عن طريق السير وراءها أو توسيعها أو تطويرها، ناهيك عن الفلاسفة المعاصرين الذين أعطوا الأولوية للجسم والامتداد على النفس والفكر. لقد انبنت الفلسفات الحديثة والمعاصرة على أساس اختلافها مع ديكارت لا اتفاقها معه، ومثلت ابتعاداً مستمراً عنه لا اتباعاً له.
لقد كان استخلاص الوجود من الفكر، والاعتقاد في وجود جوهرين متمايزين هما الفكر والامتداد، وأن الذات الإنسانية توجد على أنها فكر وأن الجسم ما هو إلا زائد أو ملحقاً بالعقل، كل هذه الأشياء كانت مسلمات في فلسفة ديكارت ورثها من فلسفة العصور الوسطى دون وعي منه ودون أن يضعها موضع الفحص، ولم يشك فيها أبداً أو يطبق عليها منهجه الشكي، ذلك لأنها كانت ضمنية أقامها واستخدمها في فلسفته دون وعي منه. إن ديكارت الذي بدأ تأمله الأول بالشك المنهجي وبرفض الاعتقادات والآراء السابقة لم يرفض في الحقيقة كل تلك المسلمات السائدة في فلسفات العصور الوسطى، إذ ظهرت لديه بقوة ووضوح. ومعنى هذا أن الشك المنهجي الذي دعا إليه في البداية لم يطبقه بما فيه الكفاية وكما يجب، بل ترك مسلمات واعتقادات التراث الفلسفي السابق عليه تتسرب إلى تفكيره دون وعي منه. وهذا يعني أن ديكارت لم ينجح في تطبيق منهجه الشكي بدقة، والحقيقة أن هذا المنهج لا يتحقق في فلسفة ديكارت بقدر ما يتحقق في فلسفات اللاحقين له وأبرزهم لوك وهيوم وكانط. إذا كان ديكارت قد طبق منهجه الشكي كما يجب أن يطبق لراجع كثيراً من مسلماته المسبقة ولأنهار مذهبه تماماً، وهذا
ما حدث لدى الفلاسفة اللاحقين الذين هدموا مذهب ديكارت عن طريق تطبيق لمنهجه نفسه بصورة أكثر وضوحاً وجرأة.
لكن إذا كان ديكارت قد فصل بين النفس والجسم هذا الانفصال التام والنهائي فكيف نظر إلى إشكالية اتصالهما واتحادهما فى الفرد الإنساني؟ إن هذا الفصل يجعل من تفسير اتصالهما في الإنسان مشكلة عويصة واجهت ديكارت وحاول أن يبحث لها عن حلول. وقد قدم ديكارت عدداً من الحلول لهذه المشكلة، مشكلة اتصال النفس بالجسم، و ذهب إلى أن الجسم ما هو إلا آلة Machine تحركها النفس. فالجسم شئ مادي مثله مثل باقي الأشياء المادية الموجودة في العالم، وقوانينه الحاكمة له هي نفس القوانين الحاكمة لكل الأجسام المادية، لكنه في نفس الوقت جسم خاص لنفس معينة. هذه الآلة التي هي الجسم الإنساني لا تستطيع أن تعمل بدون النفس، وتتوقف عن العمل إذا فارقتها النفس. وهكذا نرى كيف أن ديكارت يعود إلى نفس الأفكار التي ظهرت في العصور الوسطى حول فناء الجسم وبقاء النفس بعد الموت. ويذهب ديكارت إلى أنه على الرغم من تمايز النفس والجسم، إلا أن الوجود الإنساني في العالم يتمثل في اتحاد النفس بالجسم، ذلك لأن الله أراد من الإنسان في هذا العالم أن يكون نفساً وجسماً في نفس الوقت. فليس في اتحاد النفس والجسم أي صدفة أو عرض، ذلك لأن هذه هي إرادة الله التي صنعت هذا الاتحاد( ).
ولم يؤدي هذا الحل إلى حل إشكالية اتصال النفس بالجسم، ذلك لأن الثنائية التي وضعها ديكارت بينهما كانت قوية، وعادت مشكلة اتصالهما إلى الإلحاح عليه. فكيف يمكن للنفس التي هي فكر خالص
أن تتحد في الجسم الذي هو مادي خالص؟ وكيف تحرك النفس
الجسم وتحدث فيه أفعالاً وحالات، وكيف تؤدي الأحداث الجسمية إلى حدوث أفكار في العقل؟ وكل هذه المشكلات أتى ديكارت بافتراض لحلها وهو قوله بوجود شئ في الجسم يمثل اتحاد النفس بالجسم ويتصف بالصفة العقلية والصفة الجسمية في نفس الوقت، وهو الغدة الصنوبرية( ) التي تقع وراء المخ. فعن طريق هذه الغدة يرسل العقل إشارات عصبية إلى الجسم كي يتحرك ويفعل، وعن طريقها أيضاً يستقبل العقل أحداث وإحساسات الجسم لنقلها إلى العقل. وعلى الرغم من هذا الحل الجديد الذي يبدو عليه البراعة والذكاء إلا أنه لم يحل إشكالية اتصال النفس بالجسم، ذلك لأن ديكارت كان قد وصف الجسم بأنه آلة، والآلة لا تحركها إلا آلة مثلها، والغدة الصنوبرية ليست آلة بل هي جزء من الجسم، وكأن ديكارت يقول بأن جزءاً من الجسم يحرك الجسم كله، ويظل دور النفس غائباً، لأن هذه الغدة ليست جزءاً من النفس بل هي وظيفة من وظائف الجسم. وهكذا لم يستطع ديكارت حل إشكالية الاتصال وظلت ثنائية النفس والجسم لديه قائمة على الرغم مما يبدو عليه افتراض الغدة الصنوبرية من تجديد، وعلى الرغم من أن هذا الافتراض سوف يلقي أصداء لدى علم النفس التجريبي الحديث الذي سوف يحل نفس المشكلة بتبني الافتراض الديكارتي. لكننا عندما نمعن النظر في استخدام علم النفس التجريبي الحديث لافتراض الغدة الصنوبرية نكتشف أنها لديه ليست مستخدمة لحل إشكالية اتصال النفس بالجسم بل كانت جزءاً من نظريته السلوكية – العصبية في تفسير العلاقة بين العمليات العصبية والبيولوجية والذهنية، والتي لا تنظر إلى وجود شئ مستقل في الإنسان يسمى النفس، بل الكائن الإنساني لديها عبارة عن جهاز سيكوفيزيقي، أي عصبي بيولوجي، أي أنها ترد النفس إلى الجسم، وهذا هو عكس ما أراده ديكارت تماماً. ومعنى هذا أن افتراض ديكارت للغدة الصنوبرية سوف يجعل تفسيره لاتصال النفس بالجسم ينطلق من أساس ينظر إلى الكائن الإنساني من وجهة النظر السلوكية على أنه جهاز سيكوفيزيقي، عصبي وبيولوجي في نفس الوقت، أي ينظر إليه في النهاية على أنه جسم يتملك وظائف نفسية، عكس ديكارت تماماً الذي نظر للإنسان على أنه نفس تمتلك جسماً.
- الإله - وجوده وطبيعته:
أ - مبررات ديكارت لإثبات وجود الإله:
ينتقل ديكارت في التأمل الثالث إلى تناول وجود الإله وطبيعته، ويثبت وجوده بدليلين، وفي التأمل الخامس يستخدم دليلاً ثالثاً. لكن
ما الذي جعل ديكارت ينتقل من إثبات وجود الذات المفكرة إلى البحث عن يقين آخر وهو الإله ويشرع في إثبات وجوده؟ يرجع السبب في ذلك إلى أنه استمر في ممارسة شكه، ذلك لأنه رأى أن مجرد إثبات وجود الذات
لا يكفي كي يصل إلى يقين مطلق حول باقي أفكاره وحول العالم، حتى أنه لا يزال يشك في التأمل الثالث في الحقائق الحسابية والرياضية ويفترض أن هناك من يخدعه حولها وأن هذا المخادع هو الذي جعله يعتقد في صدقها في حين أنها ليست كذلك. ويتناول ديكارت يقينه الأول الذي وصل إليه وهو وجود الذات ويذهب إلى أن هذا الوجود لا يكفي في حد ذاته لإثبات حقائق العالم المختلفة( )، حتى أنه يفترض أن الذات تحصل على يقينها من خلال نور فطري في النفس الإنسانية لا يرجع إلى العالم الخارجي. لكنه يعود ليشك في هذا النور الفطري ذاته لأنه لا يذكر عنه سوى ما تلقاه من حقائق في العالم الخارجي، وبذلك يكون النور الفطري مجرد عامل مساعد يظل معتمدأً على ما تتلقاه الذات من العالم الخارجي. وهذا الاعتماد للنور الفطري على أشياء العالم لا يجعله عند ديكارت يقيناً مستقلاً بالذات، بل يمكن أن يكون هو نفسه عرضة للشك، لأن النور الفطري يقتصر دوره على ما تتلقاه الذات من العالم، وبذلك فهو ليس فاعلاً بل منفعلاً، ليس إيجابياً بل سلبي. والنور الفطري ليس سوى تأكيد الذات على حقائق العالم بناء على وضوح وتميز أفكارنا عنه. هذا الوضوح والتمييز في حد ذاته عرضة للشك لأنه يمكن أن ينتهي في النهاية إلى مجرد خداع أو إلى شيطان ديكارت الذي لا يكف عن افتراض وجوده دائماً في مؤلفاته. وفي مواجهة عدم كفاية اليقين الأول وهو وجود الذات، وبسبب أن هذه الذات يمكن أن تكون منخدعة، يشرع ديكارت في البحث عن أساس ثان لليقين يستطيع به تأسيس يقينه بحقائق العالم. وعندما يبحث في فكره عن أفكار يدركها في وضوح وتميز يجد أنه يستطيع التفكير في إله كامل. فبعد أن ينحي العالم كله ويستبعده من تفكيره هو والأفكار المتعلقة به وما يؤكده من نور فطري الذى هو في حد ذاته محل للشك، يتناول الفكرة الثانية التي تطغي على تفكيره بعد فكرة الذات المفكرة مباشرة وهي فكرة الإله. ويجعل ديكارت فكرة الإله هي الفكرة الوحيدة القادرة على تخليصه من شكه، لأنه بدون هذا الإله لن يستطيع أن يكون على يقين من أي شئ، ولن يستطيع أن يتخلص من فكرة الشيطان الماكر الذي يخدعه دائماً، ويقول في ذلك: «يجب أن أبحث فيما إذا كان هناك إله بمجرد ما أن تأتي الفرصة لذلك، وإذا اكتشف أن هناك إله، يجب علىَّ أيضاً أن أبحث فيما إذا كان مخادعاً»، ذلك لأن الإله إذا كان مخادعاً فلن يكون هو الإله الحقيقي بل سيصبح الشيطان الماكر بعينه، «ذلك لأنه بدون معرفة بهاتين الحقيقتين، أي وجود الإله وأنه ليس مخادعاً، فلا يمكن أن أصبح على يقين من أي شئ»، عدا كونه وجوداً مفكراً وحسب.
ب - أدلة وجود الإله:
الملاحظ أن ديكارت يتوصل إلى وجود الذات المفكرة لا بأدلة وبراهين عقلية مثل التي يستخدمها في إثبات وجود الله، بل بالحدس والبصيرة. ذلك لأن السلسلة التي ينتقل فيها من الشك إلى اليقين بوجوده باعتباره كائناً مفكراً، والتي يقول فيها: «أنا أشك إذن أنا أفكر، إذن أنا موجود» ليست ببرهان عقلي بل هي في حقيقتها برهان حدسي، يقوم على البصيرة والنور الفطري. وعندما يأتي ديكارت لتناول فكرة الإله كفكرة في الذهن وحسب، وكي يوضح أنه ليس مجرد فكرة وأنه يتمتع بوجود حقيقي يشرع في تقديم أدلة عقلية وبراهين منطقية على وجوده. ومعنى هذا أن ديكارت يقدم أدلة وبراهين على ما توصل إليه عن طريق حدس باطني وبصيرة داخلية، ذلك لأنه يبحث في ذاته عن فكرة أخرى غير فكرة الذات المفكرة ويجد فكرة الإله، وهذا هو طريق الحدس، الذي يثبته بعد ذلك عقلياً في صورة أدلة. ومن هنا فإن منهج ديكارت ليس عقلانياً تماماً، أي لا يسير كله حسب ترتيب منطقي انطلاقاً من مبدأ أول، بل هو ينطوي كذلك على الحدس والبصيرة، وما الأدلة العقلية على وجود الله سوى طريق مساعد لهذا الحدس الأصلي كي يكون على يقين من أن هذا الإله يوجد بالفعل. منهج ديكارت إذن لا يقوم على البرهان العقلي وحده بل يتضمن حدساً وبرهاناً في نفس الوقت. والدليل على أن فكرة الإله عنده هي حدس في الأساس وفي المقام الأول النص الذي سبق وأن استشهدنا به حيث يقول فيه ديكارت أنه يجب عليه افتراض وجود إله كي يتأكد ويكون على يقين من وجوده هو نفسه ومن حقيقة العالم من حوله. إن كثيراً ممن يعرض لفلسفة ديكارت ينتقل مباشرة من إثباته لوجود الذات المفكرة إلى أدلته على وجود الإله، متناسياً الكيفية التي ظهرت بها فكرة الإله لديه. فهو لم يتوصل إلى هذه الفكرة بأدلة عقلية بل بحدس باطني وبصيرة داخلية، وهذه هي النقطة التي لم يركز عليها أغلب من تناولوا فلسفته من مؤرخي الفلسفة. فكرة الإله ذاتها يعرفها ديكارت بحدس وبصيرة داخلية، أماوجوده فيعرفه أو يثبته بأدلة وبراهين عقلية. وكونه يعرف فكرة الإله بحدس باطني يجعل فلسفته مشابه لفلسفة القديس أوغسطين التي تعتمد على نفس الوسيلة وهي الحدس والبصيرة الداخلية لاكتشاف فكرة الإله داخل النفس. ومرة أخرى نرى كيف أن فلسفة ديكارت ليست جديدة تماماً بل تنطوي على عناصر تقليدية سبق ظهورها في فلسفات العصور الوسطى. إن ديكارت الذى عُرف على أنه مؤسس المذهب العقلاني هو فى نفس الوقت مؤسس للمذهب الحدسي. لكن يبدو أن مؤرخي الفلسفة يقدمون لنا ديكارت العقلاني وحسب، وهي الصورة التي أرادوا أن يقدموها لنا عنه، ولم يركزوا على ديكارت صاحب منهج الحدس الباطني الواضح في التأمل الثالث، وبذلك فهم يقدمون لنا العناصر العقلية في فلسفته فقط متناسين الطابع الحدسي لفلسفته، ذلك الطابع الذي سوف يعاد إحيائه على يد برجسون وهوسرل من المعاصرين.
الدليل الأول:
ويمكن أن نطلق عليه دليل الكمال. يميز ديكارت بين نوعين من الوجود: الوجود الموضوعي والجود الفعلي أو الواقعي. الوجود الفعلي هو وجود الأشياء المحسوسة الحاضرة أمامنا في هذا العالم، أما النوع الآخر من الوجود فهو الوجود الذي يتمتع بصفات الكمال. يمكنني أن أفكر في الحصان الطائر مثلاً، على الرغم من أنه غير موجود، ويمكنني أيضاً أن أفكر في المائدة الحاضرة أمامي وأدرك أنها موجودة، وأفكر كذلك في إله كامل. ومن بين هذه الأفكار نرى أن فكرة الحصان الطائر موجودة في ذهني فقط وليس لها وجود فعلي، والمائدة موجودة أمامي وهي بذلك تتصف بالوجود الفعلي إلى جانب كونها فكرة حاضرة في ذهني. وعلى الرغم من أن الإله غير حاضر أمامي إلا أن وجوده موضوعي، ذلك لأن ما يتصف بصفات الكمال يتمتع بوجود أكثر موضوعية من الأشياء الموجودة بالفعل، لأنها في النهاية ناقصة ومصنوعة، وفكرة الخالق أكثر موضوعية من فكرة المخلوق حتى ولو لم يكن هذا الخالق حاضر فعلياً أما الحواس. وفي ذلك يقول ديكارت: «إن إلهاً أعلى – أبدي – لا متناهي – كلي العلم والقدرة وخالق لكل شئ خارجاً عنه حاصل على حقيقة موضوعية في ذاته أكثر من تلك العناصر المتناهية»( ). ويبني ديكارت استدلاله هنا على أساس أن الخالق أكثر حقيقة من المخلوق، والكامل أكثر حقيقة من الناقص، والكلي العلم والقدرة أكثر حقيقة من ناقص العلم والقدرة، واللامتناهي أكثر حقيقة من المتناهي.
ويذهب ديكارت إلى أن كل تلك الصفات التي نعرفها عن الإله يجب أن تكون لها أسباب لوجودها، ولا يكون الإنسان هو مخترعها، ذلك لأن الإنسان ناقص وبذلك لا يمكن أن يكون هو سبب فكرة الكمال. كما أن كل تلك الصفات يجب أن ترجع إلى علة كافية وضرورية وهي الإله نفسه الموجود وجوداً فعلياً. فمن صفات الكمال الوجود، وإذا لم تكن فكرة الكمال ترجع إلى كائن موجود بالفعل فسوف تصبح فكرة ناقصة وهذا تناقض. وبالتالي فالكائن الكامل يجب أن يكون موجوداً، لأنه لو افتقر إلى الوجود لأصبح غر كامل ولكان مجرد فكرة في الذهن( ). والملاحظ أن ديكارت يؤسس هذا الدليل على مبدأ العلة الكافية. فالأفكار التي في ذهني عن الكمال، مثل كلية العلم والقدرة والأبدية واللاتناهي، يجب أن تكون لها علة كافية لحضورها في ذهني، ولأنني كائن ناقص فلا يمكن أن أكون أنا سبب هذه الأفكار، وبالتالي فالكائن الكامل هو نفسه السبب الكافي لظهور فكرة الكمال في ذهني. والحقيقة أن ديكارت قد وقع في تناقض خطير، ذلك لأنه بدأ التأمل الأول بقوله إنه لا يمكن أن يصل إلى أفكار واضحة يقينية إلا بعد أن يثبت أن هناك إله يضمن له صحة هذه الأفكار، لكنه في التأمل الثالث يستخلص وجود الإله من الفكرة الواضحة اليقينية لديه عن الكمال. ومعنى هذا أنه لم ينفذ ما وعد بتنفيذه ووقع في تناقض ودور منطقي واضح، فكي تكون لديه أفكار واضحة يقينية يجب أن يثبت وجود الإله أولاً، وهو يثبته بأفكار واضحة يقينية في نفس الوقت. ويبدو أن ديكارت كان على وعي بهذا الدور المنطقي، لأنه سوف يذهب في بقية التأملات إلى أن فكرة الإله والأفكار الواضحة اليقينية يثبت أحدهما الآخر، بحيث تكون هذه الأفكار دليلاً على وجود الإله، ويكون وجود الإله ضماناً ليقين الأفكار. وعلى الرغم من ذلك فإن هذا الحل لم يحل لنا إشكالية الدور المنطقي، ذلك لأن إقراره باعتماد فكرة الإله والأفكار الواضحة على بعضهما البعض يجعلنا نعود إلى نفس الدور المنطقي الذي بدأنا منه. فما هي البداية الحقيقية لاستدلالاتنا حسب ديكارت، أهي الإله أم الأفكار الواضحة؟ إن ديكارت يستخدم الاثنين معاً ليدعم بالواحدة منها الأخرى، ولكنه لم يضع لنا بداية حقيقية في صورة مبدأ أول نستخلص منه اليقين الثاني.
الدليل الثاني:
وفيه يثبت ديكارت وجود الإله انطلاقاً من وجوده هو، بمعنى أنه ليس سبباً لوجود نفسه، وبالتالي يجب أن يكون هناك كائن خالق هو الذي أوجده. يقول ديكارت: «واسأل نفسي، من أين أحصل على وجودي؟ ربما من ذاتي أو من والديَّ، أو من أي مصدر آخر أقل كمالاً من الإله؟»( ).
ولا يمكن أن يكون سبب وجوده شئ ناقص أو مفتقر إلى الكمال، وبالتالي فالإله الكامل هو سبب وجوده، وبما أنه موجود فالإله أيضاً موجود. وهو يفترض جدلاً أن يكون والديه هما السبب في وجوده، إذ يمكن أن يكونا سبباً في ميلاده كجسم وحسب، في حين أنه يوجد في الحقيقة باعتباره فكراً منفصلاً ومتمايزاً عن الجسد. فالوالدان يمكن أن يكونا سبباً لوجود هذا الجسم المادي، لكنهما لا يمكن أن يكونا السبب في النفس أو الروح. ويناقش ديكارت احتمال أن يكون السبب في وجوده شئ أكثر كمالاً من الوالدين لكن أقل كمالاً من الإله مثل الطبيعة مثلاً، ويرفض ديكارت هذا الاحتمال، ذلك لأن الأقل كمالاً من الإله لا يمكن أن تكون لديه القدرة على الخلق من العدم.
ويستمر ديكارت في المزيد من توضيح هذا الدليل، ويذهب إلى أنه باعتباره جوهراً مفكراً موجود لكنه لم يكن يوجد دائماً بل إن وجوده حادث، أي حدث بعد أن لم يكن. وعندما يبدأ شئ في الوجود بعد أن لم يكن فمعنى هذا أنه أتى من العدم، أي خُلق. والقدرة على إيجاد شئ من العدم تتطلب قدرة تفوق قدرة إدراك الأشياء( ). وبما أن الإنسان لا يحصل إلا على قدرة على إدراك الأشياء وفهمها وحسب وليس حائزاً على قدرة إيجادها
أو خلقها من العدم، فهذا يعني أن الإنسان لا يمكن أن يكون سبباً في وجوده، وبالتالي فهذا السبب يكون أكثر قدرة من الإنسان. وإذا كان الإنسان قادراً على إيجاد نفسه من العدم فمعنى هذا أنه قادر على الحصول على الكمال، لكن الإنسان ناقص، وبالتالي، فهو لا يمكن أن يكون سبباً في وجود ذاته، ولا يمكن أن يكون سبب الوجود إلا الإله الكامل.
ويقدم ديكارت حجة أخرى في إطار هذا الدليل، ويذهب إلى أن الوجود عبارة عن المرور عبر لحظات الزمن، وهذا المرور عبر الزمن يفترض القدرة على جعل الشئ الموجود في لحظة يستمر في الوجود في كل لحظات الزمن.
وبما أن الإنسان ليس قادراً على إيجاد أي شئ يستمر حاضراً في كل الأزمنة،
فلا يمكن أن يكون هو السبب في استمرار وجوده في الزمن. وبذلك فيجب أن تكون هناك قدرة على استمرار الإيجاد في الزمان، وهذه القدرة غير متوافرة في الإنسان، وبالتالي فالإله هو هذه القدرة التي تجعل وجودي، ووجود الأشياء كلها. مستمرة في الزمان. والملاحظ أن هذه الحجة هي في حقيقتها ليست حجة لإثبات وجود الله وحسب بل حجة على استمرار خلقه واستمرار العناية الإلهية. فديكارت يعتقد في أن الإله لم يخلق الإنسان والعالم في لحظة من الزمان ثم انتهى عمله عند ذلك، بل كان يعتقد في نظرية الخلق المستمر والعناية الإلهية تلك النظرية المستمدة من فلسفات العصور الوسطى.
الدليل الثالث:
ويسمى هذا الدليل بالدليل الأنطولوجي، وذلك لسببين، الأول أنه يستخلص وجود الإله من فكرة الكائن الكامل، والثاني أنه يوحد الفكر والوجود في حالة الإله، ويعتبر أن الإله باعتباره فكرة مساوياً للإله باعتباره وجوداً حقيقياً. ويحتوي هذا الدليل على مسلمة منطقية تذهب إلى أن ما هو ممكن ومقبول منطقياً يمكن وجوده واقعياً، بمعنى أننا إذا كنا نستطيع تصور أن المفهوم أ ينطوي على المفهوم ب، فمعنى هذا أن الشئ المسمى أ ينطوي على الشئ المسمى ب، فالعلاقة المنطقية التي تدرك بيقين وتميز في الفكر يمكن وجودها واقعياً خارج الفكر. ويسير الدليل الثالث بنفس الطريقة، إذ يذهب ديكارت إلى أن لديه فكرة واضحة ومتميزة عن الكائن الكامل، وهذا الكائن لا يمكن أن يفتقر إلى أي صفة بما فيها صفة الوجود. ومن التناقض تصور فكرة الإله باعتباره الكائن الكامل دون تصور وجوده، ذلك لأن الكائن الكامل غير الموجود حقيقة يعد تناقضاً ونقصاً في فكرة الكمال ذاتها، وبالتالي فإن الوجود جزء من مفهوم الإله، إذن الإله موجود( ).
العالم وأشياؤه:
لم يثبت ديكارت حتى التأمل الخامس سوى وجود الذات والإله، وميز بين النفس والجسد، أما في التأملين الخامس والسادس فينطلق إلى إثبات وجود العالم وحقيقة أشياءه. وأول ما يتناوله ديكارت في هذا الشأن ليس وجود المادة في حد ذاتها أو الأجسام المادية أو العالم في كليته بل حقائق الحساب والهندسة، ويذهب إلى التمييز بين معرفة العالم باعتباره مادة ومكوناً من أشياء مادية، والمعرفة الرياضية، ويقر بأن المعرفة الرياضية تتمتع ببداهة وصدق داخلي، والضمان الوحيد لهذا الصدق الداخلي هو أن الإنسان قادر على الحكم في المسائل الرياضية بيقين، وهذه القدرة على الحكم الصحيح ليست زيفاً أو خداعاً، لأن الإله الذي خلق الإنسان هو الذي وضع فيه القدرة على الحكم الصحيح، ولأنه ليس مخادعاً فهو الذي يضمن وصول الإنسان إلى اليقين في الرياضيات طالما استخدم ملكة الحكم لديه على نحو صحيح( ). والحقائق الرياضية من حساب وهندسة يتوصل إليها العقل وحده دون الاعتماد على الحواس، ودون أن يلاحظ الأشياء ويستقرأها ويستخلص منها القوانين الرياضية. وحقائق الرياضيات مستقلة عن العالم المادي،
ولا يهم ما إذا كانت هناك أشياء مادية تتحقق فيها القوانين الرياضية
أو لم تكن، فهذه الحقائق موجودة وموضوعة على مستوى الفكر وليست في حاجة إلى العالم المادي كي تتحقق. وهي موجودة قبلياً وما على العقل
إلا اكتشافها، وهو يكتشفها بنفسه بدون الاستعانة بالإدراك الحسي( ).
ولا ينشغل ديكارت فيما إذا كانت الرياضيات هي التعبير الحقيقى عن جوهر الطبيعة وماهيتها، بعكس ما سيفعل من بعده سبينوزا ونيوتن والعلم الحديث كله، فالطبيعة عنده مادة في الأساس وهى في ذلك مختلفة من حيث طبيعتها وجوهرها عن الرياضيات التي هي فكر خالص، فالرياضيات عنده تتمتع بالصحة واليقين سواء كان هناك عالم أم لا. وكأن ديكارت بذلك يعتقد في وجود عالم قائم بذاته للرياضيات مثل عالم الماهيات والمثل عند أفلاطون. والحقيقة أن في فلسفة ديكارت الكثير من العناصر الأفلاطونية في صور مسلمات ضمنية لم يكن على وعي بها، فالتمييز بين النفس والجسم وبين الفكر والامتداد، أو المعقول والمحسوس، كلها تمييزات ترجع إلى أفلاطون الذي يعد أول من أدخلها في التفكير الفلسفي.
أما عن طبيعة الأشياء المادية فيذهب ديكارت إلى التمييز فيما بين
ما يدركه العقل منها وما تدركه الحواس. فالعقل يدرك الصفات الأولية للأشياء، مثل الامتداد والشكل والعدد، والحواس تدرك الصفات الثانوية مثل اللون والطعم والرائحة والملمس. ويذهب ديكارت إلى أنه طالما يدرك العقل الصفات الأولية في الأشياء بوضوح وتميز فمعنى هذا أن هذه الصفات موجودة بالفعل في المادة وهي ما تشكل ماهيتها، أما الصفات الثانوية فليست في المادة نفسها بل هي ناتجة عن تأثر الحواس بالمادة، ذلك لأن لون الشئ ورائحته وملمسه يمكن أن يتغير مع بقاء هذا الشئ على حاله من حيث الامتداد والعدد( ). ومعنى هذا أن الصفات الثانوية ليست داخلة باعتبارها جزءاً جوهرياً في المادة، فالمادة في الأساس امتداد وعدد وشكل وحركة. هذه الصفات الأولية يدركها العقل لأنها صفات يستقبلها العقل منها، وبما أن العقل هو الذي يستقبلها فمعنى هذا أنها حقيقية، أما الصفات الثانوية فلا تستقبلها الحواس من المادة بل تتأثر بها وحسب، والاستقبال عند ديكارت يختلف عن التأثر إذ أن الاستقبال لشئ حقيقي موجود بالفعل، في حين أن التأثر يمكن أن يكون عائداً إلى طريقة تركيب وطبيعة حواسنا، وبالتالي فنحن لا نعرف من الأشياء على الحقيقة إلا ما نستقبله منها بوضوح وتميز وهو الامتداد والحركة والعدد، أما ما تتأثر به حواسنا فلسنا على يقين من أنه داخل في طبيعة المادة، بل هو صفات ثانوية فيها يمكن أن تتغير مع بقاء الصفات الأولية للمادة كما هي.
خاتمـــة
قلنا في بداية هذا الفصل أن ديكارت يُنظر إليه على أنه «أبو الفلسفة الحديثة»، وعلمنا أن هذا الوصف يرجع إلى كونه قد افتتح طريقة جديدة في التفلسف ووضع للفلسفة منهجاً جديداً. ورأينا خلال الفصل كيف أن هذا الوصف فيه الكثير من المبالغة، ذلك لأنه قد وضح من استعراضنا لفلسفته أنها ليست بجديدة تماماً بل ظلت تؤكد على نفس الحقائق المعروفة في الفلسفات السابقة عليها وبالأخص فلسفة العصور الوسطى: وجود الذات المفكرة ووجود الإله والتمييز بين النفس والجسم وإثبات خلود النفس، وبذلك تكون فلسفة ديكارت فلسفة تقليدية لكن بثوب جديد، أي ذات مضامين تقليدية وليست ثورية بالمرة لكن في إطار مجدد وثوري يتمثل في طريقة ديكارت الجديدة في الشك المنهجي وقواعد منهجه الأربعة. كما لا يمكن لديكارت أن يكون «أبو الفلاسفة الحديثة» وكل من أتى بعده يعارضه وينقده ولا يستعير منه سوى منهجه. الحقيقة أننا يجب الآن أن نفهم من عبارة «أبو الفلسفة الحديثة» معنى جديداً، يمكن أن يكون حرفياً. إنه أبو الفلاسفة الحديثة بالمعنى الذي نفهمه من آباء الكنيسة، ذلك لأن تأملات ديكارت ذات طابع ديني واضح للغاية، وهو بهذا المعنى أب بالمعنى الديني الكنسي للفلسفة الحديثة، لأنه صنع لنا فلسفة توفق بين الدين والعقل وتتوصل إلى نفس المعتقدات الدينية عن طريق العقل والبرهان، إنه بذلك يكون الأب في الفلسفة الحديثة، أي مؤسس الدين ومثبت وجود الإله وخلود النفس في الفلسفة الحديثة. وسوف تظل الفلسفات اللاحقة له ثورة مستمرة عليه. أي ثورة على الأب بالمعنى الأبوي والديني الذي صنع من الفلسفة لاهوتاً رفض كل الفلاسفة اللاحقين الانتساب إليها وعملوا على الفصل الدائم بينهما، ما عدا بعض المفكرين الذين ساروا في إتجاهه مثل لايبنتز وباسكال ومالبرانش.
د. أشرف منصور

الهوامش
( ) Richard Schacht, Classical Modern Philosophers, Descartes to Kant (London: Routledge and Kegan Paul, 1984), PP. 3-5.
( ) ديكارت: المقال عن المنهج، ص 77-81.
( ) المرجع السابق: ص 82-88.
( ) المرجع السابق: ص 89-100.
( ) Descartes, “Meditations on Metaphysics”, in the philosophical works of Descartes, Translated by Elizabeth Haldane and G.R.T. Ross (London: Cambridge University Press, 1975), vol. I, P. 148.
( ) ديكارت: المقال عن النهج، ترجمة محمود الخضيري، مراجعة وتقديم: د. محمد مصطفى حلمي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1985، ص 190.







مما لاشكّ فيه أن الحياة داخل الجماعة تشترط وجود مبادئ وقواعد لتنظيم تلك الحياة وتدبيرها بالشّكل الذي يمكّن فيه الناس من التعايش في ظلّ شروط تاريخية معطاة. وبطبيعة الحال فإنّ الأشكال التي يمكن أن يكتسيها مثل ذلك التنظيم والتدبير متعدّدة ومتنوّعة في المكان، ومتطوّرة عبر الزمان، وبالتالي فهي تختلف باختلاف درجة تعقّد ذلك التنظيم وفعاليته، وتبعا لاختلاف المجتمعات المعنية.
وإذا كان الغرب الحديث قد استطاع أن يبني، وبكيفية تدرّجية عبر تاريخ حي متحرّك، نموذجا من الحياة المجتمعية السياسية بالرّغم من متغيّراتها، إلاّ أنّها تمكّنت من أن تحافظ على مستوى معين من التجانس والتلاحم النسبيين، ممّا جعلها تختلف جذريا عن جميع أشكال التنظيمات السياسية التي أفرزتها المجتمعات السابقة القديمة أو القروسطية.
صحيح أنّ هذا التطور الذي عرفه التنظيم السياسي في الغرب لم يكن تطوّرا بسيطا، ولم يتم بطريقة سهلة ومريحة، بل لقد عرف لحظات تراجيدية تخلّلتها تراجعات وارتدادات إلى الوراء، وحروب وأزمات حادة[5].
بيد أنّه مند سنة 1989، وهي السنة التي عرفت بداية انهيار الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، ظهر إلى الوجود كتاب لمستشار لرئيس الولايات المتحدة أعلن فيه الأطروحة التي استهلكتها وسائل الإعلام وأسالت الكثير من الحبر والتي مؤدّاها"إن الديمقراطية الليبرالية يمكن أن تشكّل النقطة النهائية للتطور الإيديولوجي للبشرية، والشكل النهائي لكل حكم إنساني، وبحكم ذلك فهي تشكّل نهاية التاريخ"[6].
لقد أثارت أطروحة "فوكوياما" سجالا ساخنا وحادا. لكن ما يهمّنا نحن من إثارة هذه المسألة ليس التساؤل عن مدى صلاحيتها المنطقية أو مصداقيتها العلمية- ربّما لأنّ قوّتها لا تتمثّل على مستوى مضمونها وإنّما في كون ظهورها تزامن مع حاجة العالم إلى أوهام جديدة تمدّه بمفاتيح لفهم العصر وتفسير ما يعتمل فيه من أحداث[7]- وإنّما يهمّنا منها بعض مظاهرها التشخيصية الدالة.
أوّلها أنّ النظام السياسي والاجتماعي الغربي المعاصر قد اكتسب درجة من القوة والرسوخ والبعد الاستثنائي، إلى درجة أصبح فيها يشكّل مرجعا يكاد يكون مطلقا على الأقلّ بالنسبة للخطاب السياسي اليومي.
وثانيا فإنّ هذا المجتمع الحديث ليس هو مجتمع "المدينة" الإغريقية، ولا مجتمع "العالم الإقطاعي". فالأوّل إن كان يقوم على المشاركة المباشرة والمساواة بين المواطنين في تدبير شؤون المدينة، إلاّ أنه يقوم أيضا على نظام اجتماعي نخبوي يقصي من نطاق "الحق في المواطنة" نماذج واسعة ومتنوّعة من السكان، مثل العبيد، والنساء، والغرباء..إلخ. أمّا النظام الإقطاعي فلقد قام على نظام اجتماعي تراتبي بامتياز، تنعدم فيه المساواة، وتضيق فيه بشكل كبير حدود المركزية، حيث تسود فيه العلاقات الشخصية، كما أنّه يحتكم في تدبير شؤونه إلى المسلّمات الدينية واللاهوتية، أي إلى مبادئ وقواعد مفارقة للوجود الإنساني.
في حين نجد بأنّ الحياة الاجتماعية الحديثة تنتظم وفقا لمبادئ وقواعد محايثة أساسها ثنائية المجتمع المدني والدولة، حيث الفضاء الأول يغطّي مجال الإنتاج والعلاقات الخاصة بين الأفراد المتمثّلة في الأشكال المختلفة من التبادل الاقتصادي والاجتماعي والرّمزي. فالإنسان الحديث يضطر لكي يعيش أن يندمج في نسيج معقّد من علاقات الشغل، والحياة العائلية، والحياة التعاونية والحرفية. بينما يجسّد الفضاء الثاني الذي هو فضاء الدولة، لحظة تمثيلية موحّدة، معترف بها ومتعاقد عليها، مهمّتها الأساسية التنسيق بين مختلف التدابير الخاصة، وتشريع القواعد وإعلانها، وحماية المصلحة المشتركة والحفاظ عليها.
كما أنّ الاختلاف والتمايز الموجود بين المجتمع المدني والدولة يعتبر اختلافا أساسيا في التنظيم المجتمعي الحديث، إلى درجة يبدو فيها من السهل جدّا إقامة تعارض بينهما: فعلى سبيل المثال نجد في الخطاب السياسي المعاصر أنّ البعض لا يتوقّف من انتقاد الدولة وكشف مثالبها وإدانة آلياتها في التضليل والمخاتلة والكذب، وتحميلها المسؤولية في كبح جماح الحرية الفردية وإعاقتها لتبلور المجتمع المدني: كأن يتم مثلا اتهام الدولة بمناهضتها لسياسة الشغل من خلال مضاعفتها للإكراهات القانونية والقيود التشريعية. غير أنه توجد هناك انتقادات أخرى هي أشبه بالمؤاخذات على تقصير الدولة وتنازلها عن سلطتها: إذ تطالب الدولة بمزيد من الحضور والفاعلية، وبتكثيف تدخلاتها في مجالات التربية والتعليم والضمان والتعويضات..إلخ[8].
لكن ما يهمّنا نحن من هذا التشخيص، هو تلك العلاقة الإشكالية التي توجد بين الدولة والمجتمع، بحيث يمكن اعتبارها بمثابة البنية المشكّلة للتنظيم السياسي الحديث وللحداثة السياسية. ومن أهمّ التساؤلات التي يثيرها هذا الإشكال، تلك المتعلّقة بمصادر نشأة تلك الثنائية؟ وكيف تكوّنت وتأسست داخل الحداثة؟ وما هي خصائص ومميزات وحدود الدولة الحديثة والمجتمع المدني؟ وما هي الإشكالات المترتّبة عن الخلط بينهما وطمس حدودهما ومعالمهما الفاصلة ؟..إلخ.
ويبدو أن المسافة التي تفصل بين المجتمع المدني والدولة مرتبطة بظاهرة عامة هي مسألة "التمثيلية". ففي بعض الأحيان نجد بأنّ الدولة تسعى إلى أن تحلّ محلّ المجتمع المدني. يتجسّد ذلك بشكل ملموس حينما نجد بأنّ رئيس الدولة يتحدّث باسم الوطن والمجتمع والشعب ككل، أو حينما يتم توقيع اتفاق هام معيّن، لا يكون ملزما للدولة الموقّعة وحدها، بل وأيضا لعامة المواطنين الغير موقّعين. إنّ هذا يبرز المعطى الأساسي التالي: وهي أنّ الدولة تعتبر نفسها، بأنّها تعبّر بمعنى من المعاني، عن ديمومة المجتمع فيماوراء حياة الأفراد والجماعات، إنها الضامنة لاستمرارية الهوية القومية والوطنية عبر الزمان.
إنّ فكرة وحدة المجتمع والدولة تعتبر فكرة راسخة في الفكر الحديث بحيث لا يتصوّر وجود أحدهما بدون الآخر، فغياب الدولة أو أفولها يؤدّي إلى تعميم الفوضى وتفكّك المجتمع. فهذا "هوبز" وهو أحد مؤسسي نظرية الدولة الحديثة[9]، يقيم تعارضا بين ما يسمّيه "الجمهور" la foule بما هو كثرة غير منظمة وخطيرة بما هي مثيرة للحروب الأهلية، وبين "الشعب" le peuple بما هو مجموعة منظمة وقارّة ولا تقوم له قائمة إلا بقيام الدولة. والعكس صحيح، إذ الدولة لا توجد إلا بواسطة المجتمع، وإذا حاولت أن تتماهى مع المجتمع أو تحلّ محلّه فستتحوّل إلى توتالتارية مبتلعة للرابطة الاجتماعية ومهدّمة لها كما رأت ذلك "آرندت"[10].
لهذه الاعتبارات كلها وغيرها وجدنا أنّ علاقة الدولة بالمجتمع المدني إقتضت وجود حدّ وسيط ثالث يقوم بتحديد أطرهما، ويعمل من أجل الإبقاء على الاختلاف وتثبيت المسافة الفاصلة بينهما. ولقد بلور الفكر الحديث هذا العنصر الوسيط الذي يطلق عليه "الحقّ"Le droit. وبالرغم من طابعه الملتبس، فإنّ مفهوم الحق يكثّف في ذاته ويختزل كل الصعوبات الملازمة للنظام السياسي الحديث. لهذا لا نستغرب إن وجدناه يشكّل مجالا متأزّما وإشكاليا باستمرار، وهدفا مكثّفا للنقد.
وابتداء من القرن 19 سيتعرّض هذا الثالوث من المفاهيم الذي يمثّله كل من: المجتمع، والحق، والدولة، لعملية نقد محمومة وجذرية خاصة من طرف النقاد، "مابعد الحداثيين"، الذين يِؤاخذون الدولة بكونها تمثّل جهازا قمعيا واستبداديا، ويدعون إلى محوها وإزالتها، كما أنّهم ينتقدون الطابع المجرّد والوهمي والمنحاز للحقّ.
إنّ هذا الإشكال الذي تولّده الكيفية التي تتعالق بها هذه المقولات الثلاث هو الذي سيشكّل جوهر موضوعنا وحديثنا في مجال الفلسفة السياسية المعاصرة.
يمكن الصعود بهذا التوتر الموجود بين الدولة والمجتمع، وبالطابع الملتبس الذي ينطوي عليه مفهوم "دولة الحق"، إلى المصدرين المؤسّسين ولكن المتناقضين للحداثة السياسية، واللذان يجسّدهما كلّ من ماكيافيل، وهوبز، وروسو، من جهة؛ ومونتسكيو، ولوك، من جهة أخرى؛ بين أصحاب "نظرية السيادة" من جهة، وأصحاب "نظرية الحق الطبيعي" من جهة أخرى. حيث يبدو أنّ المجتمع الحديث قد عرف منذ تشكّله ولازال يعرف، هذا التوتر بين النزعة المطالبة باحترام القانون من جهة، والنزعة المطالبة بالحقوق التي لا تتوقّف على السياسة ولا تختزل في القانون من جهة أخرى. إنّ هذا التوتر ينطوي في ثناياه على صراع بين مشروعيتين، أو بين نموذجين من المجتمع: النموذج الأوّل هو قانوني – سياسي والنموذج الثاني هو اجتماعي- اقتصادي. إنّ هذين النموذجين مرتبطان فيما بينهما، لهذا وجدنا أنّه في العمق لا يتعلّق الأمر بالاختيار بين المصدرين، بين ماكيافيل ومونتسكيو، بل بتبيان بأنّ الحداثة في السياسة تتشكّل من لحظتين مؤسّستين، هما في الوقت ذاته لحظتان متناقضتان رهانهما الأساسي هو التيمة المركزية التي يمثّلها مفهوم الحق.
إنّ الاختلاف بين وجهتي النظر الآنفتي الذكر يجد تعبيره الخاص في الطابع الإشكالي للدولة. فبالنسبة للفكر المنحدر من مكيافيل[11] وهوبز، فإنّ ماهية الدولة متضمّنة في مفهوم السيادة La souveraineté التي تتسم بالرغم من متغيّراتها، بطابع مطلق. فالدولة في نظرهما يجب أن تتوفّر على سلطة مطلقة- دون أن يعني ذلك بالضرورة أنها استبدادية أو توتالتارية- متجسّدة في الحق في التشريع والإفتاءle droit de légiférer . فالحقّ المشرّع والذي يتم تصريفه هو التعبير الملموس عن هذه السلطة. إنّه يمكّن المواطن من العيش في أمان وسلام مع نظرائه، وذلك بفضل مجموعة من القواعد التي تنبثق من سلطة الدولة، وهي سلطة لا تقبل، في نظرهما، أن يعترض عليها.
أمّا الفكر المنحدر من مونتسكيو[12] ومن قبله "لوك" – الذي يعتبر مصدر هذا الفكر- نجده ينفر من استعمال مفهوم "السيادة"، لما ينطوي عليه من تجريد ومفارقة وإكراه، ويدعو إلى الفصل بين السلطات، أو على الأقلّ إلى تحقيق نوع من التوازن بين الدولة والمجتمع، بين القانون والحقوق السابقة على القانون. وهذا الانتقال من التصور الكلّي والفرداني للسلطة إلى التصور التعدّدي، له دلالة عميقة في هذا الصدد. إنّ هذا الاختلاف بينهما يطال أيضا تصوّرهما للحق: فهذا الأخير يحتلّ مكانة مختلفة لدى مونتسكيو لأنّه غير قابل للاختزال في صورته القانونية حيث يتسم بدوره بطابع الكثرة، ويتم التفكير فيه بكيفية تجعله مرتبطا بالتصور الأنتروبولوجي للإنسان أكثر مما يرتبط بالتصور القانوني للدولة أو للمواطن. فالإنسان يتحدد لدى لوك باعتباره "الكائن الذي يتمتع بحقوق"، وأنّ هذه الحقوق سابقة على الدولة والقانون لأنّ الإنسان "اجتماعي بطبعه". في حين نجد بأنّ هوبز ومعه مكيافيل يشدّدان على "الطابع اللاجتماعي للطبيعة الإنسانية"، وعلى أنّ "اجتماعيته" ليست معطاة وإنما يتم تنشئته عليها بتعويده على الخضوع لمؤسسات الدولة والامتثال لقوانينها.
إنّ الاختلاف بين التصوّرين يكتسي في حديثنا هذا أهمية قصوى، لفهم ليس فحسب الانتقادات الجذرية التي تعرّضت لها صورة ومفهوم الدولة الحديثة من قبل فلاسفة "ما بعد الحداثة" أمثال نيتشه، وهايدغر، وفوكو، ودولوز، وليوتار، وبودريار، ودريدا، وفاتيمو..إلخ؛ بل وأيضا من أجل فهم السجال الفكري الساخن الدائر بين الفلاسفة المعاصرين والمتمحور حول "نظرية العدالة" من أمثال: جان راولز، وشارل تايلور، ومكاييل والزر، ورتشارد رورتي..إلخ.
قلت إنّ معرفة الاختلاف الموجود بين التصورّين المؤسّسين للدولة الحديثة هام جدّا، لأنّه في الحالة الأولى وعلى ضوء التصور الأول، يبدو الحق كامتداد للفعل المؤسّس للحاكم في سلطته، ومن أهمّ خصائص هذا الفعل جعل الحاكم هو صاحب السلطة المطلقة في إصدار القانون وفي تنفيذه. يقول مكيافيل:"هناك طريقتان في المقاومة، الواحدة تتم بواسطة القوانين، والأخرى تتم بواسطة القوة: الأولى خاصة بالبشر، الثانية خاصة بالوحوش، لكن بما أنّ الأولى لا تكفي للمقاومة، يجب اللجوء إلى استعمال الثانية. من هنا يبدو أنه من الضروري للأمير، أن يحسن ممارسة الإثنين معا، (أي القوة والقانون)"[13]. فالحق هنا يتسم بطابع قانوني صرف. أمّا في الحالة الثانية وعلى ضوء التصور الثاني، يبدو الحق كخاصية محدّدة لوضعية الكائن الإنساني، أي كامتياز فردي وكحق طبيعي، وفي استقلال عن انتمائه للجسد السياسي[14].
إنّ هذا التوتر الملاحظ بين الاستعمالين أو الدلالتين المختلفتين للفظ "الحق"، نلمس حضوره بشكل جلي في ديباجة "إعلان حقوق الإنسان" إبان الثورة الفرنسية سنة 1789. فعنوان الإعلان يتحدث عن "حقوق الإنسان والمواطن"، أي عن حقوق لا هي بالقانونية الصرفة، ولا هي بالطبيعية الخالصة، فهي تنطوي على الصعوبة المتمثّلة في إدراك الحق من جهة باعتباره مرتبطا بالإنسان بما هو كائن طبيعي موجود بشكل سابق على أي تنظيم سياسي وأي نظام قانوني، وباعتباره من جهة أخرى صادر عن قانون مهمّته تقعيد وتنظيم العلاقات الاجتماعية بين الناس.
هكذا فالتقليد المكيافيلي المتمحور حول نظرية السيادة – الذي تستلهمه فرنسا وأوروبا باستثناء بريطانيا- يمكّننا من إجلاء جينيالوجيا الدولة الحديثة في صورتها القانونية خلال القرن 19، كما يمكّننا من فهم طبيعة الانتقادات التي وجّهت لها ابتداء من نفس القرن. في هذا الفكر إذن، يبدو "الحق" كلحظة وسيطة لا غنى عنها بين المجتمع والدولة.
أمّا التقليد الممتدّ من مونتسكيو- والذي تمّ تفعيله مبكّرا(القرن 17) في العالم الأنغلوسكسوني(بريطانيا والولايات المتحدة)- فهو يستهجن "نظرية السيادة" وينفر منها
لأنها تقوم بتضخيم سلطة الدولة والقانون و"المونارك" على حساب "المجتمع المدني" والحرية الفردية. كما أن هذا التقليد لا يمنح للدولة وللقانون إلا الحدّ الأدنى الضروري من السلطة. إنّه على العكس تماما من الأول يعطي الامتياز للمصدر الاجتماعي والعرفي في فهم تلاحم الجماعة. يقول مونتسكيو:" يوجد هناك هذا الاختلاف بين القوانين وبين الأعراف les moeurs، فالقوانين تضبط أفعال المواطنين، بينما "الأعراف" تقوم بتقعيد تصرفات الإنسان"[15]. هذا التصور للحق إذن، أقل قانونية وسياسية لأنه يهتم أكثر بالحقوق، وينتهي إلى تأسيس ما يصطلح عليه بالمعنى الواسع للكلمة "النزعة الليبرالية".
نستنتج مما سبق أنّ هذين الخطّين أو التوجّهين، يخترقان بتوتّرهما الفكر السياسي الحديث. وأنّ ضرورة التعايش بين هذين التيارين بالرغم من تنافرهما، هو الذي ألقى بظلاله على مفهوم الحق، وكان وراء نشأة هذا المفهوم الملتبس، أقصد بذلك مفهوم "دولة الحق".
لا نبالغ إن قلنا بأنّ هيجل كان أحد الفلاسفة الأوائل الذي انتبه إلى ما يشكّله هذا الالتباس في مفهوم الحق من انعكاسات خطيرة على صعيد العلاقة التي يجب أن تسود بين الدولة والمجتمع. من هنا حاول أن يبلور تصوّرا جديدا لما ينبغي أن تكون عليه تلك العلاقة، تصور حاول من خلاله إقامة نوع من التلاحم الجدلي المتوازن بين الدولة والمجتمع المدني، بين السياسة والأخلاق.

فلسفة سياسية معاصرة

لا نبالغ إن قلنا بأنّ هيجل كان أحد الفلاسفة الأوائل الذي انتبه إلى ما يشكّله هذا الالتباس في مفهوم الحق من انعكاسات خطيرة على صعيد العلاقة التي يجب أن تسود بين الدولة والمجتمع. من هنا حاول أن يبلور تصوّرا جديدا لما ينبغي أن تكون عليه تلك العلاقة، تصور حاول من خلاله إقامة نوع من التلاحم الجدلي المتوازن بين الدولة والمجتمع المدني، بين السياسة والأخلاق.
لهذا وجدنا بأن تصور هيجل السياسي يقدّم ذاته باعتباره التتويج النهائي لنظرية الدولة، حيث في ثنايا ذلك التصور ستعثر الدولة على "مبرّر وجودها في التاريخ". لكن في الوقت ذاته وبموازاة ذلك، نجد بأنّ التحليل المتضمّن في التصور الهيجلي يسعى إلى تجاوز وجهتي النظر المتعارضتين الآنفتي الذكر في مقاربة علاقة الدولة بالمجتمع. لهذا يجب أن ننظر إلى فلسفة هيجل السياسية باعتبارها محاولة أصيلة وطريفة لتحقيق نوع من المصالحة بينهما، وذلك عبر إجراء نوع من التركيب بين الموقفين المتعارضين، الموقف الذي يستلهم "النموذج الحربي" في بناء نظريته للدولة، والموقف الذي يستلهم "النموذج الاقتصادي" في صياغة تصوره للدولة. الموقف الأول يمثّله أنصار نظرية السيادة، والموقف الثاني يجسّده أنصار نظرية الحق الطبيعي.
نقد هيجل لنظرية التعاقد:
ينتقد هيجل بشدة نظرية التعاقد لدى روسو، حيث يحمّلها المسؤولية عن الأخطاء التراجيدية الناجمة عن الثورة الفرنسية والتي كانت لها انعكاسات سلبية وخطيرة على المجتمع الغربي الحديث. لقد كان الغلط الأكثر خطورة هو ذاك الذي يتمثّل في الفكرة التي تروم تأسيس الدولة انطلاقا من الفراغ وابتداء من لاشيء. إنّ فكرة تأسيس الدولة على أساس البداية المطلقة هي فكرة آية في التجريد وتفتقر إلى المحتوى الملموس. لهذا كان تطبيقها على أرض الواقع، كما جسّدت ذلك ثورة 1789 في فرنسا، أفضى إلى ارتكاب الكثير من الفظاعة والعنف، وأشاع الكثير من الرعب والفزع مما أدّى إلى الإساءة إلى مفهوم الثورة والتوجّس من كلّ فعل جديد. إنّ هذا التصور العدمي يتأسس في نظر هيجل على الإفتراض التالي: وهو أنّ الأفراد المتّحدين تحت ظل عقد اجتماعي معين، هم وحدهم القادرين على تأسيس الدولة. لكن الدولة حتى إن كانت تعبّر عن إرادة ما، فلن تكون تلك الإرادة هي الإرادة الفردية، بل لابدّ من إرادة جماعية لتأسيس دولة. وهذا يقتضي إحداث تغيير في تصوّرنا لماهية الدولة. فالدولة ليست هي حاصل تجميع أجزاء مفصولة عن بعضها البعض، بل هي عبارة عن وحدة عضوية يمكن القول بأنها سابقة على الفرد والجماعة وليست لاحقة عليهما كما يتوهّم روسو في نظريته في التعاقد. إن الدولة عبارة عن كلّية تضمن لكل عضو فيها هوية ومكانة داخل المجتمع. وبتعبير آخر، الدولة ليست حاصل تجمّع أفراد، وليست حاصل فعل الأفراد، ولكن هي ما يمنح لهؤلاء شكل وجودهم وماهيتهم.
إنّ الفكرة الأساسية هنا في تصور هيجل، هي أنّ الدولة ليست بناء اصطناعيا ناجما عن عملية توافقية وتعاقدية، ولكنها وحدة عضوية أصيلة وراسخة. وفي الحقيقة فإنّ هيجل يعود بنا هنا إلى فكرة أرسطو التي تعتبر بأنّ المدينة أسمى من الفرد وسابقة عليه. لكن مع ذلك يجب أن نعرف بأنّ هيجل يتحدّث عن الدولة وليس المدينة. وهذا المفهوم يقتضي إقامة تمييز بين المدينة والدولة وهو التمييز الغائب عن التقليد الإغريقي. إنّ الدولة في صيغتها المكتملة هي نتاج لسيرورة ولتاريخ طويل زاخر بالأحداث والمغامرات.

تصور هيجل للمجتمع المدني:
لقد نشأ المجتمع المدني، حسب هيجل، حينما كفت الأسرة أن تكون غاية للفرد، حيث أصبحت ذاته ومصالحه هي الغاية من وجوده، كما أصبح كل فرد يعامل الآخرين على أنهم وسائل لتحقيق غاياته، وهذا كله كان وراء نشأة فكرة الاعتماد المتبادل بين الأفراد التي توجد في أساس المجتمع المدني. إنّ استقلال الأفراد عن الأسرة ودخولهم في علاقات خارجية بوصفهم ذوات اجتماعية متعددة ومستقلة يؤدي إلى تكوين المجتمع المدني. إنه يمثّل حالة اعتماد الأفراد على بعضهم البعض باعتبارهم شخصيات مستقلة. فعندما كان الفرد عضوا داخل الأسرة كانت غايته هي الأسرة وهي غاية كلّية، إذ هو لا يصارع من أجل نفسه فحسب، لكنه يكافح من أجل الكلّية التي تمثّلها الأسرة. لكنه الآن قد ارتدّ وأصبح ذرة اجتماعية ونظر إلى نفسه على أنها غاية، ولدا فإنّ كلية الأسرة تختفي لتحلّ محلّها الفردية أي الغاية الشخصية الذاتية. بيد أن كلية الأسرة هو العنصر الأخلاقي أو العقلي فيها، ومن ثم يبدو المجتمع المدني وكأنه فقد العنصر العقلي والأخلاقي، إذ كل فرد داخل المجتمع المدني يسعى إلى تحقيق غاياته الخاصة وهذه هي الجزئية واختفاء لحظة الكلية التي كانت متجسّدة في الأسرة.
يتميز المجتمع المدني بالتسيير الذاتي الذي تضبطه مؤسسات. وهو يتسم بالخصائص التالية: الاستقلالية، والحصانة الذاتية، والمساواة، والجمع بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية، والتجريد وتعميم العلاقات، والاستحقاق والمسؤولية.
إنّ الاستقلال الذاتي، يعني أنّ العلاقات بين الناس تتمتع بوجود مستقل بحيث لا تخضع لإرادات الأفراد. وهذه الاستقلالية هي التي تجعل "النسق الاجتماعي" يفرض نفسه على الأفراد ويفرض قواعده على تصرفاتهم. تعني الاستقلالية إذن بأن الوساطة الموجودة بين الأفراد والتي تفرض نفسها عليهم للخروج من القوقعة الفردية باتجاه خلق إطار عام ومشترك للعمل، فتنتقل بهم من الخصوصية الفردية إلى الشمولية المجتمعية، وبالتحام العنصرين معا يتحقق المجتمع المدني بما هو مجتمع للمساواة، أي مجتمع يسود فيه المستوى الواحد الأفقي الذي يكون من أهم نتائجه، إعادة الاعتبار لإنسانية الإنسان ولفرديته كقيمة أخلاقية. تقتضي المساواة إذن إحلال العلاقات الأفقية محلّ العلاقات العمودية، أي إلغاء الامتيازات الطبيعية وتلك التي لها علاقة بالجنس والسلالة والنسب. شرطها الأساسي إذن هو إلغاء عنصر القرابة كمتحكّم في الاقتصاد والسلطة. أي القضاء على عنصر القرابة كأساس لتنظيم المجتمع حيث لا يسمح للعائلة أو للقبيلة لتأهيل أفرادها لامتيازات معيّنة أو لحرمانهم منها.
ما يهم في تأسيس المجتمع المدني هو سيادة العلاقات الأفقية وإحلالها محلّ العلاقات العمودية بغضّ النظر عن مستوى تطور المجتمع. وإيجابية سيادة المستوى الأفقي هو أنه يلغي العنصر الطبيعي، عنصر القرابة.
الخاصية الأخرى للمجتمع المدني هي التجريد، أي تعميم العلاقات وإضفاء عليها طابع العمومية. فما يميز المجتمع المدني عند هيجل هو غياب المقدّس على جميع المستويات، وهو الذي يعني سيادة المستوى الواحد بالنسبة لجميع الأفراد.
كما يتميز المجتمع المدني عند هيجل بخاصية أخرى هي الجمع بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة، بين الإرادة الفردية والإرادة العقلية العامة، دون أن يعني ذلك إلغاء للإرادة الفردية بل تحقيق لها. إنّ هيجل هنا يدافع عن موقف هو على النقيض من الموقف السائد في الفكر السياسي الحديث. فهذا الأخير يقوم على الدعوة إلى الفصل بين السياسة والأخلاق، في حين يطالب هيجل بفرض الأخلاق داخل المجتمع المدني كما تفرض القوانين في مجال الحقوق. مبرّر الجمع بين السياسة والأخلاق، بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة يربطه هيجل من جهة، بالتقدم الذي حققه المجتمع الغربي حيث أصبح الصالح العام(أي مبدأ الخير) مجسّدا على أرض الواقع، لدا لا يمكن الإبقاء على حالة الفصل بين المصلحتين التي كانت سائدة من قبل. ومن جهة ثانية فإنّ الفصل بين الأخلاق والسياسة هو الوجه الآخر للفصل بين العقل والواقع، بين الفكر والوجود، في حين أنهما يشكّلان شيئا واحدا وهو الذي يجسّده لنا مفهوم الإنسان. فالفصل بينهما يعني تكريس التعامل مع الإنسان باعتباره مجموعة من الحاجيات والنزوات والأهواء. وهو الذي يعني اختزال الكائن الإنساني في المستوى الطبيعي الحيواني وفصله عن بعده العقلي الذي يوجد في أساس إنسانيته. فمهما كان مستوى التقدم الذي يمكن تحقيقه في ضبط تلك الحاجيات وإشباعها، فإننا نظل دائما دون المستوى المطلوب- بحكم لانهائية الرغبة وتجدّدها- إن لم نراعي البعد العقلي، بمعنى أننا سنحكم على المجتمع بالتقهقر نحو ماهو لا إنساني، فينقلب ضد أهدافه وضد روحه. بل إنّ هيجل يعتبر بأنّ الربط بين السياسة والأخلاق، هو الكفيل بتحصين المجتمع من النزعة التوسعية الاستعمارية، لأنه بدون ذلك الربط يعني ترك المجتمع يتطور وفق ذاته أي وفق حاجاته ورغباته، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى فيض في الإنتاج فيصبح في حاجة إلى أسواق خارجية وإلى مواد أوّلية.
بالإضافة إلى هذا الربط بين السياسة والأخلاق الذي يحققه المجتمع المدني، فهو أيضا ينتزع التربية من الأسرة ويعطيها طابعا مؤسسيا، بحيث لن تعود وظيفتها هي المراقبة والضبط، بل تصبح مهمّتها هي تنشئة الأطفال تبعا لطموحات المجتمع وأهدافه، وهذا هو البعد العقلي في التربية وفي المجتمع المدني لدا هيجل.
الخاصية الأخرى للمجتمع المدني الهيجلي هي المسؤولية لأنه مجتمع يقوم على الاستحقاق الذي هو أساس التدبير والتسيير. وتعني المسؤولية التمتع بالحقوق والقيام بالواجبات. والتوصل إلى هذا المستوى من التنظيم يعبّر عن تطور فائق في بنياته، إذ لا يقرّ المجتمع المدني بتساوي الأفراد في الفضيلة فحسب، بل وأيضا في الرذيلة(أي في الشر). وبحكم ذلك لا يتوفر الفرد على أي حصانة غير الحصانة التي يقرّها المجتمع. فلا يمكن أن تكون للفرد حصانة طبيعية أو عائلية. ولهذا يجب الاحتياط من الأفراد الذين توكل لهم مهام معينة خاصة. وهذا يعني أن المراقبة داخل المجتمع المدني يجب أن تكون أفقية وليست عمودية كما هو الشأن في المجتمع الذي يتأسس على عنصر القرابة. والطابع الأفقي للمراقبة يجعلها تؤدي بالمجتمع إلى التعاضد والالتحام والديمقراطية.
الخاصية الأخرى للمجتمع المدني عند هيجل هي العلاقة الوطيدة بين مبدأ الفردية ومبدأ الشمولية. فما يميز المجتمعات القديمة مثل اليونان مثلا، هو غياب مبدأ الفردية، حيث الفرد خاضع للقيم الجماعية ويجسّد الكلّ الشمولي. في حين يعتبر هذا المبدأ هو أساس المجتمع الغربي الحديث. لهذا يرى هيجل بأنّ السؤال المتعلّق بالعدالة وبالمدينة الفاضلة سؤال غير ذي موضوع في المجتمع الحديث الذي يسوده مبدأ الفردية. لكن هيجل يعتبر بأن الحرية الفردية في إطار المجتمع المدني لا تصبح طاغية لأنّ هناك ضوابط تجعلها معقولة ومسؤولة ولا تتناقض مع المصلحة العامة. فالفرد يفكّر فيما هو عام، وما هو عام يفكّر في الفرد. بل حتى الدولة ذاتها لا تجرأ على المسّ بهذه الحرية التي هي أساس المجتمع المدني. فهناك علاقة جدلية بين الدولة والمجتمع المدني، فالأولى تمثّل العقل والثانية تمثّل حرية الفرد، والدولة لا يمكن الاستغناء عنها لأنها تسهر على مصالح الأفراد وتحافظ على حرياتهم.
هذه الخصائص تجلي الطابع الشمولي والمعقد لمفهوم المجتمع المدني عند هيجل. فهذا الأخير يستعمل هذا المفهوم للدلالة على تصور معيّن للدولة، وللنشاط المادي الاقتصادي للمجتمع. وهو يتجلى من خلال مظهرين مرتبطين بشكل عضوي هما المظهر السياسي والمظهر الاقتصادي. فمن حيث المظهر السياسي فالمجتمع المدني هو نظرية الدولة الحديثة التي تكوّنت في العصر الحديث في تعارض مع الدولة القديمة. إنها دولة الليبرالية التي من وظيفتها الأساسية حماية حقوق الأفراد ومصالحهم. ومن حيث المظهر الاقتصادي يمثّل المجتمع المدني "دولة الحاجة" أو "نظام الحاجات" وإشباعها عن طريق العمل والتبادل.
ينتقد هيجل المجتمع المدني الحديث لأنه فشل في تحقيق تنظيم عقلاني للعمل، وتوزيع عادل للثروة، فظلّ بذلك في مستوى النزعة الذرية الخالصة. ولقد أدرك هيجل شر الليبرالية وعجزها عن تقديم الحلول للمشكلة الإنسانية. بل إنّ تناقضاتها الاقتصادية تولّد الاستياء والإحساس بالغربة اتجاه حياة الدولة، أي إنّ انعكاساتها السياسية خطيرة على مستوى علاقة الفرد بالدولة. من هنا أحسّ هيجل بأهمية تدخّل الدولة وقام بإعادة النظر في علاقة الدولة بالمجتمع المدني.
إنّ الفرق الأساسي بين المجتمع المدني والدولة هو أن الفرد في المجتمع ينظر إلى نفسه على أنه يشكّل غاية في ذاته، في حين أن الدولة تعدّ غاية أعلى يوجد الفرد من أجلها لدرجة أن غايته تصبح كلّية. فالمجتمع المدني تجمّع يسعى أساسا إلى تحقيق الغايات الجزئية والشخصية وحمايتها، ويسلك الفرد داخله باعتباره موجودا اقتصاديا واجتماعيا وليس باعتباره سياسيا يعبّر عن إرادته وروحه. فالمحرّك لهذا المجتمع هو المصلحة الذاتية لا المبدأ أو المثل السياسي الأعلى، لأنّ أساس المجتمع المدني هو العلاقات المادية، ولهذا فوحدته ضعيفة لأنّ المبدأ المؤسس له هو الشخص الجزئي. فما يلاحظ في هذا المجتمع هو أنّ الفرد الواحد يراعي أهداف الأفراد الآخرين الذين يشتركون معه في وحدة المصير، ولكن هذه المراعاة ليست ناتجة عن مبدأ أخلاقي أو إيتيقي، وإنما تمليها متطلبات وحاجيات الفرد ذاته. فمن مصلحة الفرد الشخصية أن يراعي مصلحة الآخرين، وإذا لم يفعل ذلك لن يتمكّن بدوره من تحقيق مصالحه. وعليه فالخضوع لما هو عام لا يأتي من الاقتناع بهذه الضرورة بحدّ ذاتها، وإنما لارتباط مصلحته بمصالح الآخرين. وهذا يعني أنّ الطابع الشمولي الذي يتسم به هذا المجتمع هو من طبيعة خارجية وليس نابعا من اقتناع داخلي للإنسان. لهذا وجدنا هيجل ينعت المجتمع المدني بالدولة الخارجية، "دولة الفهم والحاجة". فضرورة الاجتماع هنا ضرورة خارجية وليس مصدرها الاقتناع الداخلي بها، أي ليس مصدرها هو الحرية. لهذا السبب يعتبر هيجل المجتمع المدني بمثابة روح خارجية تتوسّط بين الأسرة والدولة. وهو يرقى إلى مستوى الحياة الإيتيقية لأنّه يضع حدا لإفراطين تعرفهما الحياة الإنسانية: الإفراط الأول ناتج عن ارتباط الإنسان بالحرية المجرّدة، حرية الأهواء والنزوات والميول غير المحدودة. أمّا الإفراط الثاني فهو الذي يؤكّد على الحرمان والبؤس، أي الاتجاه الذي لا يعترف بالرغبات والأهواء الفردية. يستطيع المجتمع المدني أن ينهي هذين الإسرافين لأنه يحقق الجمع بين مبدأ الفردية ومبدأ الشمولية. وتحقيق الربط بين الفردي والشمولي، بين المتناهي واللامتناهي يعدّ مسألة جوهرية في تصوّر هيجل للمجتمع المدني. وتوجد داخل هذا المجتمع ثلاثة مكوّنات تفرض الطابع الشمولي على الممارسات الفردية وهي: نسق الحاجيات، حماية الملكية، التنظيم وائتلاف الفئات.
يتحوّل المجتمع المدني إلى دولة عندما تصبح إرادته ومثله العليا منظمة بشكل واع، ومصاغة في دستور يتخذ كإطار عام لتنظيم الحياة داخله. أي حينما يصبح أساس الدولة هو الإرادة العامة، وحينما يوجد الكائن داخله ككائن حي عضوي حيث يتداخل مصير الفرد مع مصير الكلّي.
يتكوّن المجتمع المدني من ثلاث لحظات أساسية هي على التوالي: نظام الحاجات، والهيئة القضائية، والشرطة والنقابات. نظام الحاجات وهو الاعتماد المتبادل للأفراد يعضهم على بعض في إشباع حاجاتهم وتحقيق أهدافهم الشخصية. فكل فرد يعمل من أجل إشباع حاجاته، والآخرون يستفيدون من ذلك العمل في إشباع حاجاتهم أيضا. وفي هذا الاعتماد المتبادل تظهر الكلّية الضرورية للروح البشري. كما تظهر أيضا في العمل، بما هو تشكيل للمادة الخام في أشكال وصور تلائم إشباع الحاجات الإنسانية. ويؤدي هذا إلى تقسيم العمل. كما تظهر هذه الكلّية أيضا في الثروة التي هي نتاج تقاطع أعمال جميع الأفراد. وينشأ من نظام الحاجات التقسيم الاجتماعي إلى طبقات. وتنقسم الطبقات تبعا لنوع الحاجات التي يتم إنتاجها. وهناك ثلاث طبقات: طبقة المزارعين والفلاحين، وطبقة التجار والصناع، والطبقة الكلّية وهي التي تنشد في عملها تحقيق المصالح الكلّية للمجتمع والدولة، وهي تمثّل الطبقة الحاكمة التي تعتمد العقل في التدبير. وهكذا فالطبقة في التصور الهيجلي لا يتم تحديدها انطلاقا من المولد أو النسب. بل إنّ هذا يتوقف عنده على مقدرة الفرد واختياره الحر. وهيجل يلوم أفلاطون لأنه جعل تقسيم الطبقات يتوقف على الحكام، وفي ذلك إنكار للحقوق الذاتية ولحرية الفرد. كما ينتقد هيجل نظام الطبقات المغلق السائد في الهند في عصره، الذي يجعل من المولد العامل الوحيد الحاسم في تحديد الطبقة.
أما النقابة فهي تمثّل المؤسسة التي يكتسب الفرد داخلها وعيا بوظيفته الكلّية، وبارتباط غايته بغاية الكلّي المجتمعي.
أما مؤسسة القضاء فمهمتها هي وضع حد للخلافات بين الأفراد. أما مؤسسة الشرطة فتحرس على توفير الحماية لمصالح كل الأشخاص.
إنّ التحرر الذي يتحقق داخل المجتمع المدني يعتبر تحرّرا محدودا وصوريا لأنّ خصوصية الأهداف وجانبها الفردي هما أساس هذا التحرّر. وحينما يصبح الشمولي هو الذي يوجّه الكلّي المجتمعي، ينتقل التحرر من "الصورية" إلى "الواقعية" وهذا لا يتحقق إلا في إطار الدولة.
إنّ الشمولية المتحققة داخل المجتمع المدني هي شمولية مجرّدة، وهي كذلك لأنّ مفهوم الشمولية لم يتحقق بعد في كليته، وهو الذي يعني أن هناك عناصر ينطوي عليها المفهوم لم تتحقق بعد. إنّ الشمولي في المجتمع المدني مجرّد لأنّ حضوره لازال ناقصا بحيث لم يتطابق المعطى مع مضمون المفهوم. الطابع الذي يأخذه الشمولي هنا هو الملكية وهي حقّ خاضع لإرادة العدالة ويؤطّره القانون. وهكذا فالشمولية تفرض نفسها بشكل تدريجي على مستوى العمل والحاجيات، ثم على مستوى القانون الذي يتساوى أمامه الناس.
تصور هيجل للدولة:
تمثّل الدولة عند هيجل وحدة الأسرة والمجتمع المدني. فليست الدولة كفكرة غير وحدة الاختلاف الذي يمثّله المبدأ الكلّي للأسرة والمبدأ الجزئي للمجتمع المدني. إن الدولة بحكم كونها تركيب للحظة الكلّية ولحظة الجزئية فهي تمثّل اللحظة الثالثة التي تمثّلها الفردية. لا يتعلق الأمر بالفردية الذرية التي هي فردية المجتمع المدني، بل هي فردية الكائن الحي العضوي. فالدولة هي كائن حي تسري في داخله وبين مختلف أجزائه حياة كلّية. وهذا يعني أنّ الحياة الحقيقية للأجزاء أي للأفراد، إنما توجد في حياة الكلّ وتتحد معها في هوية واحدة. فالدولة هي الكلّي المتحقق بالفعل وبالتالي فهي الفرد وقد تموضع وتحقق بالفعل. إنها بكلمة واحدة هي "الكلّي الملموس". وعلى هذا النحو ليست الدولة سلطة أجنبية غريبة تفرض نفسها على الفرد من الخارج وتكبت حريته. بل الدولة هي الفرد وداخلها يحقق فرديته. لهذا السبب تجسّد الدولة في المنظور الهيجلي، أسمى تجلّ للحرية، وذلك لأنّ الفرد حينما تحدده الدولة فإنما تحدده ذاته الجوهرية أو ما هو كلّي وحقيقي فيه. تلكم إذن هي الفكرة الشمولية عن الدولة. وهناك دول لم تصل إلى هذا المستوى الشامل الذي تمثّله فكرة الدولة لأنها تجسّد مبادئ غير حقيقية. غير أن وجود هذه الدول الفاسدة أمر لا مفرّ منه. لأنّ الدولة بالرغم من نقصها فهي تتضمن باستمرار اللحظات الجوهرية لوجودها. والدولة الحقة في نظر هيجل هي تلك التي تجسّد حرية الفرد ولا تلغيها.
إن الدولة تتسم بالوجود العاقل، لأنها وجود كلّي، ومن ثم فهي تجسيد للفكرة الأخلاقية وتحققها الفعلي. ولما كانت دائرة الأخلاق هي دائرة تموضع الإرادة، كانت الدولة هي التحقق الفعلي للإرادة. إنّ الدولة هي الجوهر الأخلاقي الواعي بذاته. صحيح أنّ الأسرة تتسم بدورها بكونها كلّية وعقلانية إلاّ أنّ عقلانيتها تتخذ صورة وجدانية يجسّدها الحب. فمضمون الأسرة كلّي من حيث أنّ غاياتها كلّية، إلاّ أنّ صورتها ليست كلّية لأنها ليست فكرا بل هي وجدانا، فهي لا تعرف وإنما تشعر وتحسّ. أما الكلّي المطلق فهو كذلك من حيث المضمون والصورة معا. ومثل هذه الكلّية المطلقة الواعية بذاتها لا نصل إليها إلا في الدولة. فهي تسعى عن وعي إلى تحقيق غايات كلّية.
الدولة وجود عاقل لأنها ليست نتاجا للصدفة، أكان مصدرها قوى طبيعية، أم نزوة من نزوات الإنسان، وإنما هي نتاج لتطور ضروري للعقل الكلّي وهي تجسيد للمطلق. كما أن الدولة ليست وسيلة لشيء آخر، بل هي غاية في ذاتها. ولأنها غاية أعلى من الفرد فقد تطلب منه أن يضحّي من أجل غاياتها العليا وهي غايات عقلية. لهذا فتصور هيجل للدولة لا يجب أن يؤوّل تأويلا إيديولوجيا بحيث تصبح ذريعة لتبرير الأعمال العشوائية التي يقوم بها الحكام حينما يعملون على تحقيق مصالحهم الخاصة الذاتية، ويقدّمونها في صورة الغايات الحقيقية للدولة. هكذا فالفرد من حيث هو عضو في الدولة يتمتع بمجموعة من الحقوق وعلى رأسها حريته الفردية. من هنا خطأ النظريات السياسية التي ترى بأن الدولة مجرّد تجمع محض للأفراد يقصد به حماية المصالح المتبادلة. أو أن الدولة وجدت لكي تنمّي الثروة وتقوّي الأعضاء، أو إنها اتفاق وتعاقد بين الأفراد على الحد من حرياتهم لصالح الدولة. كل هذه النظريات مرفوضة من قبل هيجل لأنها تجعل من الدولة مجرد وسيلة لتحقيق غايات الفرد، في حين أن الدولة هي على العكس غاية عليا.
كما يرى هيجل بأن الأصل التاريخي للدولة لا صلة له بالأساس العقلي للدولة وطبيعتها وفكرتها الشاملة. ذلك لأن الدولة قد تكون قد نشأت عن طريق القوة، أو النصب، أو الاغتصاب، أو بأية طريقة أخرى. ومعنى هذا أن الأصل التاريخي للدولة لا يتماهى مع فكرة الدولة وكنهها.
وهكذا فالدولة الهيجلية تمثّل الحقيقة، ومحتواها يتحدّد في تعارض مع المجتمع المدني. ذلك لأنّ الخلط بين الدولة والمجتمع المدني، يعني في التصور الهيجلي، أن نجعل كهدف لها، السهر على حماية الملكية الخاصة والحرية الشخصية؛ وفي هذه الحالة ستصبح المصلحة الفردية هي التي ستشكّل الغاية النهائية لوجود الدولة والوحدة، ومن شأن هذا أن يستتبع أن انتماء الأفراد إلى الدولة يتوقف على إرادة أولئك الأفراد وعلى حريتهم. في حين أن الدولة مادامت تمثّل "الروح الموضوعي" فإنّ الفرد لا يمكن أن تكون له أية حقيقة أو أي وجود موضوعي أو أي حياة أخلاقية إلا من حيث هو عضو داخل الدولة. فاتحاد الفرد بالدولة غاية في ذاته، إنه الغاية الحقيقية والمحتوى الحقيقي مادام مصير الفرد هو أن يعيش حياة كلّية وشمولية ومتحدة. وهذا يعني أن المحتوى الحقيقي للدولة ليس هو تنظيم العلاقات بين الأفراد ومراقبتها بل هو "إتمام تلك العلاقات" L’accomplissement des rapports . إتمام العلاقة إذن هو الحقيقة الذاتية للدولة. وهذا يعني أن الحقيقة الذاتية-كما يفهمها هيجل- ليست هي الفردانية بحاجاتها ومصالحها وحقوقها، ولكنها العلاقة بين الفردانيات كعلاقة مع الروح، أو علاقة الروح مع نفسها. هكذا إذن فالدولة الكلّية هي الذاتية بما هي عضوية مفارقة للتنظيم الاجتماعي.
نستنتج مما سبق أن هناك مشكلتان تهيمنان على نظرية الدولة عند هيجل هما: علاقة الدولة بالفرد، ومشكلة تنظيم الدولة. فتصور هيجل لعلاقة الدولة بالفرد يختلف عن تصورين يمكن أن نعترهما متطرّفين هما : التصور الأفلاطوني والتصور الليبرالي. ففي التصور الأفلاطوني-الذي يمكن أن نعتبره جذر التصور التوتالتاري- يتم التضحية بحقوق الفرد لصالح وحدة الكلّ، وذلك لأنّ الفردية أو الخصوصية ينظر إليها في إطار هذا التصور كعنصر فوضى وانشقاق. أما في التصور الليبرالي الحديث فالدولة مجرد تجمّع وجد من أجل حماية حقوق الأفراد، وبالتالي فهي فاقدة لكلّ طابع جوهراني وكلاّني. أصالة التصور الهيجلي تتجلّى في السعي للبرهنة على أنّ الدولة الحديثة يمكن أن تبقى "دولة جوهرية"، وفي نفس الوقت تعمل على إشباع حاجات الأفراد، وتحقيق طموحاتهم، والنمو الحر لشخصياتهم. لهذا وجدنا هيجل ينتقد ادّعاء الدولة الليبرالية المتنثّل في اعتبار نفسها جهازا غايته القصوى هي حماية المصلحة الفردية. ويرى بأنّ الحروب تكذّب هذا الادعاء حيث تسود قوة الدولة المطلقة. فحينما يصبح وجود الدولة مهددا، فإنها ترغم المواطنين على التضحية بحياتهم ومصالحهم. من هنا يستنتج هيجل أن للدولة غايتها الخاصة بها. فهي لها حق سام على الأفراد، إذ واجب هؤلاء أن يكونوا أعضاء داخل الدولة. وبهذه الصفة يحقّقون درجة عالية من الحرية والأخلاقية وذلك لأنّ إرادتهم الذاتية متفقة ومتناغمة مع الإرادة الكلّية والشمولية.
إن الدولة هي حقيقة الحرية الملموسة. وهذه الأخيرة تحتوي على لحظتين غير منفصلتين: فعلى الشخصية الفردية أن تنال تطورها الكامل وأن يعترف بحقوقها، ولكن في الوقت ذاته فالأفراد مطالبون بالاندماج في الصالح العام حيث يعترفون به كروح جوهري وكغاية نهائية لنشاطهم.
والدولة من حيث هي "حقيقة أخلاقية" ليست سوى الاندماج الحاصل بين الجوهرية والخصوصية، حيث الخصوصية لحظة أساسية داخل الدولة والإشباع الكامل لمتطلّباتها مسألة ضرورية.
إذن خلاصة تصور هيجل لعلاقة الدولة بالفرد، تبيّن أنهما يشكّلان مظهران متكاملان في نظرية الدولة الهيجلية: فمن جهة لا يمكن للفرد أن يحقق غاياته إلا إذا كان عضوا في الدولة، ومن جهة أخرى فإنّ الدولة لا يمكن أن يستمر وجودها وحياتها إذا لم تشبع طموحات الفرد. فالفرد حينما يصبح عضوا داخل الدولة، فهو لا يحمي مصالحه فحسب، بل يحقق شخصيته كما يحقق حريته. ومن جهتها فالدولة تستمد قوّتها من ولاء وإخلاص أعضائها.
أمّا فيما يتعلق بتصور هيجل لتنظيم الدولة الذي يجسّده "الدستور"، فهو يعتبره غير منفصل عن حياة الشعب وروحه. فليس الدستور عنده مجرّد نصّ قانوني، بل هو مجموعة من العادات والتقاليد والقواعد الحية داخل ذاكرة ووعي شعب ما. الدولة المنظمة بشكل جيّد لا يمكن اختزالها- كما هو الشأن بالنسبة إلى المجتمع المدني- إلى نظام ذرّي، بل هي "كلّ منظم" أو "كلّ عضوي".
أمّا فيما يتعلق بمظاهر الدستور الأساسية المتلائمة مع العصر، فيحدّدها هيجل في المظاهر التالية:
أ- فهي دولة يحكمها المونارك وليس الشعب. وذلك لأنّ الشعب كتلة من الأفراد لا تعرف ما تريده، كما يمكن أن تقوم بممارسات متطرّفة جدا طالما أنّ الذي يحرّك القطيع هما الغريزة والجهل.
ب- لا يتعلق الأمر – بالنسبة لهيجل- بترك الأفراد خارج تنظيم الدولة بل ضرورة مساهمتهم في تسيير شؤون الدولة، ولكن ليس عن طريق ممثليهم المنتخبين بكيفية ديمقراطية عن طريق الاقتراع العام، بل عن طريق اللجان والتنظيمات والحرف والنقابات حيث تكون ممثّلة لجميع حالات وتنظيمات المجتمع. وهذا يعني أن التصور الهيجلي يقصي كل تمثيلية شعبية لصالح التمثيلية الحرفية. والدليل الذي يؤسس عليه هيجل هذا التأكيد هو أنه داخل هذه التجمّعات الحرفية فحسب، وفي فضائها يتجه مصير الفرد نحو الكلّي ويتوحّد بمصيره. فهو لا يعتبر عضوا في الدولة من حيث هو فرد، بل من حيث هو عضو داخل دائرة أو تنظيم اجتماعي معيّن. لهذا السبب يرفض هيجل التصور الليبرالي للدولة ويتبنّى تصورا عضويا للدولة حيث الأساسي ليس الفرد بما هو فرد، بل التنظيم والتجمّع الذي ينتمي إليه ذلك الفرد. بالإضافة إلى هذه التمثيلية الحرفية، توجد طريقة أخرى للمشاركة في التسيير السياسي للدولة وذلك عن طريق الصحافة وصنع الرأي العام[i].
نقد التصور الهيجلي للدولة:(العروي وماركس)
أ- لابدّ أوّلا من التأكيد على الطابع الإيجابي الذي تكتسيه فكرة الدولة في الفلسفة الهيجلية. فهي لا تكتفي بالتمثيل، ولا بالسادة والقمع، بل تساهم أيضا في نشر القيم الروحية والمبادئ العقلية التي هي أساسية بالنسبة للمجتمع ولإنسانية الإنسان. ذلك لأنّ المؤسسات المكوّنة للمجتمع المدني لها دور كبير في التأثير على سير مؤسسات الدولة بما في ذلك المؤسسة المونارشية ذاتها. كما أن إيجابية الدولة ستتأكّد من خلال النجاح الذي حققته الماركسية على الصعيد العملي. وتتمثّل تلك الإيجابية على صعيد استقلالية الدولة عن الطبقات التي تمثّلها وهي التي تؤدّي مستقبلا إلى خلق فئة البيروقراطية، كما يرى الفكر السياسي المعاصر. بطبيعة الحال لم يكن هيجل منتبها إلى هذا التطور الذي سيطرأ على الدولة مستقبلا ولكنه كان يؤكّد على إيجابيتها. ولا شكّ أن الدور الإيجابي للدولة يرتبط لدى هيجل بوظيفتها الأخلاقية. فإذا كانت الدولة ما قبل هيجل ومند القرن السادس عشر تهتم فحسب بتحقيق السيادة وضمان الاستقرار، بحيث كان دورها منحصرا في حدود القمع والضبط. إلا أنّ وظيفة الدولة عند هيجل تتمثّل في خلق المجتمع المدني وجعله يجسّد العقل والحرية. بينما نجد أن إيجابية السلطة لدى فوكو تنحصر في الوسائل التي تنتجها لتأكيد ذاتها والتغلب على الطرق الكلاسيكية التي تعتمد على الظهور والقمع. وهذا الجانب يجلي بعد الدهاء والمخاتلة في الممارسة السياسية.
المظهر الآخر لإيجابية الدولة عند هيجل يتمثّل في فكرة التجسيد. فالدولة كمطلق إنما هي تجسيد للعقل وللحرية وللحق والمعرفة الإنسانية. فالدولة لا تكون تجسيدا للمطلق إلا حينما تجسّد مصالح ومطامح كل الأفراد المكوّنين للمجتمع الذي تسود فيه. فإذا كانت الدولة تتجسّد مصالحها في مصلحة كل فرد على حدة، فذلك لأنّها إذ تجسّد مصالحه فهي في الوقت ذاته تسهر على توعيته وتنبيهه من أجل خلق الوعي المصلحي الفردي كإسهام في التطور العام الذي يحصل في المجتمع المدني.
تتضح مسألة التجسيد أكثر حينما يتناول هيجل المؤسسة المونارشية. فدور الأمير يتمثّل في تجسيد السيادة وليس الرمز لها والانفراد بها في مجال من المجالات. ولن تستجيب المونارشية لمقتضيات الشمولية والدولة المعاصرة إلا إذا كانت تسود في مجتمع تحقق فيه بدوره الشمول بشكل أفقي وعلى مستويات متعددة، في مجتمع أصبحت فيه المصلحة ذات طابع مدني وليس عائلي. وهناك علاقة وطيدة بين القوة التي يجسّدها المونارك والقوة التي يجسّدها الشعب: بحيث المونارشية لا تستجيب لمقتضيات العقل المطلق إلا حينما ترتبط سيادتها بتحقيق سيادة المجتمع المدني. وهكذا فهيجل لا يوحّد بين الدولة والمونارشية، فهذه الأخيرة مؤسسة من مؤسسات الدولة الأخرى ولا يمكن أن تحلّ محلّها.
ب- النقد الماركسي للدولة الهيجلية:
يرى ماركس بأن التعريف الذي يقدمه هيجل للدولة هو تعريف عقلاني آية في التجريد. ذلك لأنها في نظره تجسّد الإرادة العامة الجوهرية، هي العقل في ذاته ولذاته. ثم يحاول بعد ذلك أن يبحث عن واقع خاص يبرر به تلك الدولة العقلية. غير أن تجسيد العام في الخاص يتجسّد لديه بالعفوية، والنتيجة هي – حسب ماركس- الانتقال من المثل الأعلى إلى الملموس بدون مبرر معقول، مما يجعله يضفي على الملموس حلّة زائفة من العقلانية.
إنّ النظرية الهيجلية في الدولة مبنية كلها على نقد نظرية التعاقد التي هي أساس فلسفة الأنوار، وإليها يرجع ماركس في نقده للدولة الهيجلية.
نقطة التحول الأساسية في التصور الماركسي هو إدراكه الواضح أن حادث انسلاخ الدولة اتلسياسية (الصورة) عن دولة المجتمع الإنتاجي (الاقتصاد) يشكّل حادثا مستجدا في التطور التاريخي للإنسان. وأنّ التناقض بين الفرد المنتج والدولة السياسية- المطلقة عند هيجل- واقع تاريخي محدد وليس ضرورة منطقية كما يرى هيجل. إنّ هذا التناقض حادث لأنه لم يكن موجودا مند الأزل حيث الدولة الجوهرية الموضوعية تعبّر بكيفية مباشرة عن الأسرة والمجتمع المدني. بل إنّ ماركس يؤكد على أنه قبل الثورة الفرنسية لم تكن هناك سياسة بالمعنى الدقيق للفظ، بل كان المجتمع الإنتاجي يكوّن مباشرة الدولة. لهذا يستنتج ماركس بأن هناك حنين هيجلي إلى التاريخ القديم والوسيط، ورفض للتحولات الجذرية التي نتجت عن الثورة الفرنسية. لهذا لم يفهم هيجل "فلسفة الأنوار" التي جاءت كتعبير عن الحقيقة التاريخية. ويرى ماركس أنّ استبدال التاريخ بالمنطق هو السبب الكامن وراء وضع هيجل للجوهر والشكل في غير موضعهما. فعوضا من أن يستشفّ المستقبل يتقهقر إلى الماضي نحو التنظيمات القروسطية التي قضت عليها الثورة الفرنسية لعدم ملاءمتها مع متطلبات الإنتاج والتطور.
إنّ قيمة نظرية الدولة الهيجلية تتمثّل في نظر ماركس في إدراكها للتناقض الذي وقعت فيه نظرية الأنوار بين المجتمع المدني(الإنتاج) والدولة(السياسة)، لكن خطأه تمثّل في اعتبار هذا التناقض تناقضا منطقيا وليس واقعيا كنتاج للتطور التاريخي. فحينما نستقرئ الوقائع نجد بأنه في القديم لم يكن هناك تناقض ولا انفصام بين المجتمع والدولة، بحيث كان التنظيم الاجتماعي هو في الوقت ذاته تنظيما سياسيا، حيث كانت الملكية والنفوذ والسلطان مظاهر واقع واحد، ولم تكن هناك سياسة ولا دولة بالمعنى الدقيق المتداول. ولم يحصل الانفصام إلا في العصر الحديث. لم تبق الدولة موازية للمجتمع، حيث نشأت إدارة خاصة بالمجتمع، وتعالت الدولة حتى أصبحت تشكّل إيديولوجيا قائمة بذاتها. لكن تجاوز واقع الانفصام لا يتم، في نظر الماركسية، بإحياء الوضع القديم(الدولة الجوهرية) بل بتغيير الوضع الذي تسبب في الانفصام، والذي يتمثّل في نظام الملكية. هكذا يستنتج ماركس بأن هيجل ينتهي إلى حقيقة لا يهتدي إلى حلّها: حقيقة وجود انفصام بين المجتمع والدولة. هذا هو جوهر مشكل الإنسان المعاصر. بيد أن الحل الوحيد الممكن يكمن في نظر ماركس في تغيير نظام الملكية. يتعلق الأمر بالقضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وإحلال محلّها الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج.

قيمة فلسفة هيجل السياسية:
يرى كاسرير في كتابه "أسطورة الدولة" Le mythe de l’Etat بأن قيمة فلسفة هيجل السياسية تتمثّل في تأثيرها القوي على الفكر السياسي المعاصر، بحيث ليس هناك أي نسق سياسي كبير لم يتأثّر بهيجل. ولقد تم هذا التأثر على حساب فلسفة هيجل المنطقية والميتافيزيقية التي كانت تعتبر أساس الفلسفة الهيجلية.
يرى كاسرير بأن سر انبعاث الفكر السياسي الهيجلي يتمثّل في كون مثاليته على عكس مثالية أفلاطون التي تعتبر بأن العادات والتقاليد والأخلاق لا قيمة لها في المجال السياسي، في حين يدمج هيجل السياسة بالأخلاق.
يرى كاسرير بأن النظرية السياسية الهيجلية تقوم على نزعتين متناقضتين: هناك التوجه الشمولي ذو المقاربة الكلّية للدولة، حيث ينظر إلى مختلف الدول التي عرفها تاريخ الإنسان، باعتبارها تحقيقات وتجلّيات مختلفة ومتفاوتة للعقل الكلّي المطلق. وهناك نزعة أخرى وتوجه آخر ينطلق من الجزئية والخصوصية، حيث ينطلق من واقع المجتمع الألماني والدولة البروسية بصفة خاصة.
غير أن كاسرير يعتبر بأنّ ما يهم في النظرية السياسية الهيجلية ويتمتّع بقيمة كبرى، ليس هو مبدأ ه السياسي، ولكن هو التوجّه السياسي الذي يتيحه نسقه الفلسفي، وأنماط الأسئلة التي يسمح بطرحها.
لقد بنى هيجل تصوره للدولة أوّلا من خلال رفضه لنظرية الحق الطبيعي للدولة(نظرية روسو) والتي ترى بأن أصل الدولة هو التعاقد.
كما بنى هذا التصور ثانيا من خلال نقده للأخلاق الكانطية، لأنها تجعل الإنسان يعيش صراعا داخليا بين الواجب الأخلاقي المجرد من جهة، وبين الميولات والرغبات الذاتية للفرد من جهة أخرى. فهو يقيم تعارضا بين مملكة الحرية(مملكة الأخلاق والغايات) وعالم الطبيعة(مملكة الضرورة والعلل والأسباب). في حين يرى هيجل بأن الجوهر الأخلاقي لا يتجسّد في قاعدة أو قانون صوري مجرد، بل يجد دلالته وتعبيره في واقعة راهنة وملموسة في حياة الدولة. ويرى كاسرير بأنه في هذا المنظور لا تخضع الدولة لأي إلزام خلقي أو إكراه. كما أن الواجب الوحيد للدولة هو الحفاظ على وجودها وبقائها. فالدولة هي وحدة عضوية حيث الكل يهيمن على الأجزاء، ولكنها وحدة جدلية تقبل بالاختلاف والتناقض داخلها، بل إنها تشترطه وتتطلّبه. إنّ محرّك التاريخ عند هيجل وصانعه هو النشاط الإنساني في التاريخ الناتج عن حاجاته ورغباته وأهوائه، في حين يعتبر الفضائل الأخرى المجردة مثل حبّ الوطن على سبيل المثال لا الحصر ليست إلا ثانوية.
وحسب كاسرير لقد حدث تطور مهم في تصور هيجل للدولة: ففي المرحلة الأولى هيمن فيها النسق الميتافيزيقي على تفكير هيجل، مما جعل تصوره للتاريخ تصورا شموليا وكلّيا يلغي دور الفرد والعنصر الخاص والذاتي. وسيهجر هيجل هذا التصور حينما بدأت فلسفته الميتافيزيقية تفقد سلطتها لصالح فلسفته السياسية.
في هذه المرحلة الثانية سيؤاخذ هيجل على كل من كانط وفيخته والثورة الفرنسية رفعهم لشعار عن الحرية يتميز بطابع صوري ومجرد، أي أنّ تفكيرهم قد فارق الواقع ولم يعد متصلا به. ذلك لأنّ العالم الواقعي والحقيقي هو العالم التاريخي، في حين – كما يلاحظ هيجل- نجد بأنّ الثورة الفرنسية قد هدمت هذا النظام وتنكرت له. من هنا يستنتج كاسرير بأن الخلفية الإيديولوجية لنظرية هيجل في الدولة تتمثّل في تأكيده على أن كل فترة من فترات التاريخ لا توجد إلا أمة واحدة تمثّل حقيقة روح العالم وتجسّده، وهي التي لها الحق أن تحكم باقي الأمم.
لكن بالرغم من هذا، يرى كاسرير، بأنّ تصور هيجل للدولة يتناقض جذريا مع التصور التوتالتاري للدولة. فهو لا يربط عظمة الدولة بقوتها، أي باتساع قوتها الجغرافية وضم أراض جديدة لها-إذ أن الاستعمار المتمثّل في ضم أراض جديدة هو، في نظره، يشكّل بداية ضعف واضمحلال الدولة. كما أن الدولة التوتالتارية تقوم على مبدأ آخر للإقصاء تعارضه الدولة الهيجلية. إنها تقوم على محو وإقصاء جميع أشكال الحياة الاجتماعية والثقافية التي تعبّر عن الاختلاف. إنها تقصي جميع أشكال التمايز والاختلاف. في حين يرى هيجل بأن هذا الإقصاء للاختلاف لا يؤدي إلى تحقيق الوحدة العضوية، ولكنه يؤدي إلى تحقيق وحدة مجردة هشة، في حين أنّ أساس الوحدة هو الاختلاف والتناقض. ويرى هيجل بأنّ هذا الخطأ هو ذاته الخطأ الذي وقعت فيه الثورة الفرنسية التي ربطت قوة الدولة بإقصاء الحركات المختلفة، ونسيت بذلك أنّها تقوّض أحد الدعامات الأساسية للدولة ألا وهي الحرية. إنّ المثال الذي يستلهمه هيجل في بناء تصوره للدولة هو حدث الثورة الفرنسية. ففشل هذه الأخيرة في تحقيق أهدافها راجع إلى كونها ألغت عنصر الاختلاف والتنوع داخلها، وهو شرط لحرية الدولة وتحررها. ويرى كاسرير بأنّ هذه المسألة تعدّ اختلافا جذريا بين تصور هيجل والتصور الشمولي والتوتالتاري للدولة.



هناك تعليقان (2):

  1. كتير حلو انا احب الفلسفه كتير اموت فيها الله يعطيك العافيه ياستاذويزيدك علم

    ردحذف
  2. مقالكم للأسف تعرض للسرقة من طرف يدعى أوبليل حميدي من الجزائر وهو مفتش للفلسفة بالتعليم الثانوي بالجزائر وقد نشره على موقع المفتشية العامة للبيداغوجيا بالجزائر والموقع موجود.

    ردحذف